
رحلة حنظلة … الجدران تتكلّم… والناس تضحك خوفًا – شربل الغاوي
حين تصبح الجدران دفتر شوارع
ويتحوّل الإنسان البسيط إلى قضيّة وطن
لا تدخل مسرحية رحلة حنظلة القاعة لتسلية عابرة ولا لتصفيقٍ سريع يعقبه نسيان. تدخل لتضع المتفرّج داخل اختبار قاسٍ: اختبار الوعي، واختبار الضحك حين يكون قناعًا، واختبار الإنسان البسيط حين يتحوّل، من دون أن يدري، إلى مرآة تفضح مجتمعًا كاملًا. نص سعد الله ونوس، بإخراج جو رميا، يُقدَّم هنا كما هو: مفتوحًا على الهواء، بلا تلميع، بلا تهذيبٍ للحدّة، وبلا خوف من أن يكون موجعًا.
يختار الإخراج خشبة متقشّفة في شكلها، غنية في دلالاتها. كل زاوية تقول شيئًا، وكل تفصيلة تعمل ضد الطمأنينة. الجداران المليئان بالكتابات والرسومات ليسا ديكورًا للزينة، بل ذاكرة مرميّة أمامنا. دفتر شارع انتُزع من المدينة ووُضع على الخشبة. عبارات حب، شتائم، شعارات، ألوان فوضوية متداخلة، وكلها تحت ضوء علوي ضاغط، كأن المشهد اعتراف قسري لا مهرب منه.
قوة هذه الجدران أنها متحرّكة. تفتح وتغلق، تقترب وتبتعد، فتتحوّل مرة إلى زنزانة، ومرة إلى مكتب تحقيق، ومرة إلى سرير، ومرة إلى منصة سلطة مرتفعة. هنا تتكثّف قسوة العرض. كل شيء يتبدّل أمامك بسهولة، إلا ما في الداخل. الداخل لا يتغيّر إلا بالعنف أو بالصدمة أو بالوهم. المكان يتبدّل، المصير واحد.
الإضاءة، بتصميم أحمد حافظ، ليست إنارة تقنية بل موقف درامي. في مشهد المكتب، يغمر الأزرق البارد المكان، فيحوّله إلى مساحة استجواب صامتة. طاولة بسيطة، كرسي، باب أو خزانة ضخمة مغلقة، وفراغ أسود خلفها يبتلع الإحساس بالأمان. الضوء يقول بوضوح: هذه ليست غرفة، هذا عقل محاصر. وفي مشهد السلطة فوق الجدار، يعود الأزرق كضوء مراقبة، كأننا أمام كاميرا ترى ولا تُرى، قبل أن ينقلب فجأة إلى أحمر ناري، دخان ولهب فوق المنصة. الأحمر هنا ليس جماليات، بل إعلان أن الجنون حين يصل إلى رأس الهرم، يحرق من تحت قبل أن يلمس من فوق.
تشتغل البسيكوميديا في العرض بذكاء حاد. واحدة من أذكى لحظاته هي تبديل الديكور أمام الجمهور. الناس تضحك، لأن التبديل يتم بخفة ووضوح ومن دون ادعاء. لكن هذا الضحك نفسه هو الفكرة. نحن نضحك لأننا تعوّدنا أن تتبدّل الأقنعة بسرعة، وأن تُدار حياتنا كما تُدار غرفة يُعاد ترتيبها. اليوم سجن، غدًا مستشفى، بعده مكتب. الضحية هي نفسها. فقط تتغيّر اللوحة الخلفية.
كارلوس أنطونيوس، في شخصية الحكواتي حرفوش، يشكّل العمود الفقري للإيقاع. أداؤه عفوي بدقة، عفوية لا تتهرّب من المعنى بل تُدخله من دون خطابة. حضوره قرب الجدران يشبه المذيع الشعبي الذي يعرف أكثر مما يقول، الراوي الذي يضحكك ثم يتركك وحيدًا أمام سؤالك. هو ليس مجرد حكواتي يشرح، بل ميزان إيقاع، ووصلة كهرباء تصل الخشبة بالجمهور. من خلاله تصبح البسيكوميديا مفهومة. الضحك هنا ليس نكتة، بل رد فعل دفاعي على واقع لا يُطاق.
وسام بتديني يقدّم حنظلة كما يجب أن يكون. شخص بسيط، لا يتصنّع البساطة ولا يستعرض السذاجة، بل يعيشها كقدر. قوّة أدائه تظهر في التفاصيل الصغيرة: الوقفة، النظرة المعلّقة بين الفهم وعدمه، الجسد الذي يبدو كأنه دائمًا متأخر نصف خطوة عن الأحداث. هو ممثل “حقيقي” لأنك لا تشعر أنه يمثّل، بل أنه موجود. لذلك تصبح رحلة الشخصية موجعة. الجمهور لا يرى بطلاً خارقًا، بل يرى نفسه حين يُداس وهو يعتقد أنه يمشي بأمان.
علي منهد يقدّم في أدواره المتعدّدة نموذجًا خطيرًا للسلطة الهادئة. هو ضابط لا يصرخ كي يقمع، ولا يحتاج إلى كاريزما مفتعلة. السلطة فيه نبرة عادية جدًا، عادية إلى حدّ الرعب. في لقطة السرير، حضوره في المقدّمة بوجه مثقل ونظرة متعبة يخلق طبقة إضافية من المعنى. الضابط هنا ليس وظيفة، بل حالة. نظام كامل يمشي على قدمين. ومع تعدّد الأدوار، لا نشعر أننا أمام شخصيات منفصلة، بل أمام المؤسسة نفسها وهي تغيّر قناعها وتبقى كما هي.
بيا خليل ترفض أن تُحبس في شخصية واحدة. أداؤها قائم على التحوّل. طيف من الأدوار، تبديل في النبرة والجسد والطاقة، من دون استعراض. في مشاهد السرير والمواجهة، هناك جرأة محسوبة، لا تبحث عن الصدمة الرخيصة، بل تخدم فكرة النص. العلاقات تتحوّل إلى أدوات، والخيانة لا تظهر كفعل شخصي فقط، بل كمرآة لخلل أوسع، خلل يجعل الإنسان لا يرى الحقيقة إلا بعد أن يدفع ثمنها. هي لا تُختصر في دور، لأن العرض نفسه يرفض اختصار البشر. كل شخص له أكثر من وجه، والوجوه تتبدّل بحسب الحاجة.
السينوغرافيا في هذا العرض لا تُعامل الفراغ بوصفه مساحة محايدة، بل بوصفه خطابًا. كل عنصر موضوع على الخشبة يبدو كأنه وُضع بعد محاكمة، لا بعد قرار جمالي. الأشياء قليلة، لكنها مشحونة، وكأنها بقايا عالمٍ أُفرغ من معناه ولم يبقَ فيه سوى ما يُستخدم للسيطرة أو للمراقبة.
في المشاهد التي تتقاطع فيها السلطة مع الفرد، لا يعود الأثاث مجرد أدوات. يصبح حدًا نفسيًا قبل أن يكون حدًا بصريًا. هناك مسافة غير مرئية تُفرض بين من يسأل ومن يُسأل، مسافة لا تُقاس بالأمتار بل بالسلطة. الفراغ نفسه يتحوّل إلى ضغط، إلى صمت ثقيل، إلى شعور بأن المكان لا يحتمل الاعتراف ولا يسمح بالهروب.
حتى لحظات السكون الظاهري لا تُقدَّم بوصفها راحة. كل ما يبدو كاستراحة يحمل داخله خدعة بصرية. حضور عنصر حيّ في فضاء قاسٍ لا يمنح طمأنينة، بل يكشف عزلته. كأن الأمل، حين يُترك وحيدًا، يتحوّل إلى دليل اتهام لا إلى خلاص.
وعندما ينتقل العرض إلى مساحة يُفترض أنها مخصّصة للعلاج، تنقلب المفاهيم رأسًا على عقب. الحركة تصبح جماعية، منسّقة، شبه طقسية. الجسد يُدار، يُعاد ترتيبه، لا ليُشفى، بل ليُضبط. هنا تبلغ البسيكوميديا ذروتها. ما يُقدَّم في صورة مضحكة هو في العمق فعل عنف ناعم، لأن العلاج لا يسعى إلى تحرير الإنسان من أزمته، بل إلى جعله صالحًا للتعايش معها.
في هذا المستوى من العرض، لا يعود السؤال: كيف صُمّم المكان؟
بل: ماذا يريد المكان من الإنسان؟
والإجابة موجعة. المكان لا يريد خلاصه، بل تكيّفه. لا يريد وعيه، بل انتظامه. وهنا، تحديدًا، يتحوّل الفراغ إلى معنى، وتصبح السينوغرافيا شريكًا أساسيًا في الإدانة، لا خلفية لها.
من أقسى صور العرض مشهد السلطة في الأعلى. مسؤولون فوق الجدار، تحت الضوء، وفي الأسفل جدران مكتوبة كأحياء فقيرة من الكلمات. الفوق يتسلّى، والتحت يختنق. ثم تأتي لقطة الجماعة أمام الجدران. أصابع تشير، أجساد متقابلة، وجوه مشدودة. ليست مشهدية صراع فحسب، بل مشهدية اتهام. كل واحد يشير إلى الآخر، فيما النظام ينجو لأن الجميع منشغلون بتوزيع الذنب بدل كسر الدائرة.
ملاحظة نقدية واحدة لا بد من قولها بصدق. العمل يملك أفكارًا قوية جدًا، ويملك راوياً يشرح كثيرًا، ومع ذلك بقي جزء من الجمهور خارج الرسالة في النهاية. ليس لأن الفكرة ضعيفة، بل لأن الختام احتاج حسمًا دلاليًا أوضح، صورة نهائية تقفل الباب على المعنى بدل أن تتركه نصف مفتوح. هذه الملاحظة لا تُسقط العرض، بل تؤكّد حجمه، لأن العروض الصغيرة لا تُربك أحدًا أصلًا.
في الخلاصة، رحلة حنظلة ليست مسرحية تُشاهد، بل مسرحية تُحسّ. تخرج منها وأنت تشك في نفسك، وفي ضحكتك، وفي فكرة أن البساطة حماية. جو رميا يقدّم ونوس كما ينبغي: مسرحًا يجرح بأدب، يصرخ بهدوء، ويضحك وهو يبكي. التمثيل هو ركيزة الفوز هنا. كارلوس أنطونيوس يربط الحكاية بالناس، وسام بتديني يجعل حنظلة إنسانًا لا شعارًا، علي منهد يجسّد السلطة حين تبدو “طبيعية” فتفترس، وبيا خليل تفتح الشخصيات على أكثر من وجه وتمنع اختصارها.
إنها بسيكوميديا تعرف تمامًا ماذا تفعل. تضعك أمام حقيقة موجعة: هناك أشياء يمكن علاجها، وهناك أشياء لا. والأخطر أن بعض الأشياء لا تُعالج لأننا تعوّدنا عليها، فضحكنا لها، ثم سكتنا.
شربل الغاوي
مخرج وصحافي وناقد سينمائي