
فيلم “إنت مين”… هذا ليس فيلمًا… هذا بيان رسمي بانهيار الحرفة – شربل الغاوي
في كل موسم، تُعرض أعمال فنية تستحق النقاش والاختلاف، وأخرى تستفز النقّاد فتجعلهم يكتبون عنها من شدّة غضبهم وخيبتهم. لكن هناك نوعًا ثالثًا من الأعمال: أفلام لا يفهم المتفرّج كيف كُتبت، ولا كيف مُوّلت، ولا كيف مرّت من أمام أعين المنتج والمخرج من دون أن يوقفها أحد. فيلم “إنت مين” ينتمي بوضوح إلى هذا النوع الثالث؛ فيلم يكشف أزمة كتابة وإخراج، أكثر مما يقدم حكاية، ويُشعر المشاهد أنّ الصناعة الدرامية قادرة على التراجع خطوات طويلة إلى الخلف في لحظة واحدة.
الفكرة الأساسية: زواج لا يمرّ في أي منطق
نقطة الانطلاق في الفيلم ليست مجرد حبكة ضعيفة، بل فكرة تصطدم مباشرةً بالمنطق وبالزمن الذي نعيشه. فتاة تُدفع إلى الزواج لتغطية فضيحة لا ذنب لها فيها. يتم هذا الزواج عبر عمّتها وعمّة العريس، ويُعقد باسم “جون كايسي”، بينما الاسم الحقيقي للرجل هو “رالف”، ومع ذلك يُقدَّم الزواج على أنّه قانوني، بأوراق ثابتة، في عام ٢٠٢٥، وكأنّ تغيير الاسم في عقد زواج رسمي تفصيل بسيط يمكن تمريره بلا مساءلة ولا نتيجة.
هنا لا نتحدث عن خيال فني مشروع، بل عن استهتار بعقل المشاهد. فالعالم الذي نعيش فيه اليوم لا يسمح بهذه السذاجة القانونية. ومع ذلك يتصرّف الفيلم وكأنّ هذه النقطة ليست مشكلة، بل أساس يمكن بناء حبكة كاملة فوقه.
مشهد العروس… ووعي اجتماعي غائب
يتعامل الفيلم مع شخصية سارة وكأنها تعيش خارج الزمن. ترتدي فستان زفاف، وتتحدث عن زوج لم ينظر إليها، وتستند إلى فكرة أن وجوده بنظارات، وعدم التقاء العيون، كافيان لتبرير أنها لو رأته لاحقًا لن تعرفه. كيف يمكن في سنة ٢٠٢٥ أن تُبنى قصة زواج على هذا المستوى من السذاجة؟ من هي الفتاة التي تقبل أصلًا أن تتزوج رجلاً لم تر وجهه، ولم تتأكد من هويته، ولم تحاول حتى أن تواجه الحقيقة قبل أن تربط مصيرها باسمه؟
المشهد لا يسيء فقط إلى المنطق، بل يسيء إلى صورة المرأة نفسها، ويعاملها ككائن بلا وعي ولا حس ولا حدّ أدنى من الفطنة. كأن الفيلم يطلب من الجمهور أن يعلّق وعيه قبل الدخول إلى المنصة.
هروب من كتابة الدراما بجملة واحدة
بدل أن يفتح الفيلم الباب على صراع قانوني أو أخلاقي أو درامي بعد هذا الزواج الملتبس، يختار الطريق الأسهل: يدخل المرافق إلى سارة، يضع مبلغًا من المال، ويخبرها أنّ “جون كايسي” غادر البلاد. بهذه البساطة يتم إقفال فصل كامل من حياتها بجملة واحدة، من دون تحقيق، من دون شك، من دون أي أسئلة أو تبعات واقعية.
هذا ليس اختصارًا دراميًا ذكيًا، بل هروب من مواجهة الأسئلة التي يفرضها المنطق. الكاتب هنا لا يبحث عن حل، بل يفتّش عن مخرج سريع من الورطة التي صنعها بيده، فيترك المتفرج أمام فجوة لا تُردم.
صدفة لا تُقنع أحدًا
بعد فترة طويلة، تتوظف سارة في شركة، لتظهر المفاجأة: الشركة تعود للرجل نفسه، “جون كايسي” أو “رالف”. لا هو يعرفها، ولا هي تتعرّف إليه، ويبدآن من جديد قصة حب بين موظفة وصاحب شركة. على الورق، يبدو الأمر محاولة لبناء حبكة قائمة على المصادفة. لكنّ المصادفة هنا ليست متعة درامية، بل ثغرة مفتوحة.
ثم تأتي الثغرة الأكبر: سارة تدخل الشركة باسم مختلف أو شهرة مختلفة عن تلك التي كانت تستخدمها يوم الزواج. وهنا يصبح السؤال أعمق:
كيف تدخل موظفة جديدة سجلات شركة مرموقة من دون مطابقة اسمها الرسمي مع أوراقها؟
وكيف لا يلفت الأمر انتباه صاحب الشركة، خصوصًا أنّ المرأة التي تزوجها سابقًا كانت تحمل الاسم نفسه ولكن بشكل أو بآخر بشهرة أخرى؟
وما يزيد من غرابة المشهد أن الرجل يختارها للعمل تحديدًا لأن اسمها “سارة”، الاسم الذي ارتبط لديه بزواجه الغامض. كأنّ الكاتب يريد دفع الصدفة إلى حدّها الأقصى، فوق منطق العالم وفوق أي احتمال واقعي.
أين ذاكرة الجسد؟ أين ملامح الوجه؟ أين الصوت؟ أين البصمة التي تتركها اللحظات المصيرية؟
وكيف يمكن للهوية أن تضيع بهذه البساطة، مرتين: مرة في الزواج، ومرة في التوظيف؟
يبدو وكأن الفيلم يطلب من الشخصيات ومن الجمهور معًا أن يصابوا بفقدان ذاكرة جماعي كي تستمر اللعبة.
الغني الذي يتحكم بالزواج والطلاق كزرّ على الطاولة
يتكرر في الفيلم نموذج الرجل الغني الذي يستطيع أن يتزوج ويطلّق ويغيب ويسافر ويعود، كأن حياته العاطفية بند تجاري في حساب مصرفي. لو لم يكن ثريًا، لانكسر السيناريو كله، ولما استطاع الكاتب أن يبرر تلك القفزات السريعة من زواج باسم إلى سفر مفاجئ إلى تأسيس شركة ضخمة إلى قصة حب جديدة مع موظفة عنده.
نحن أمام إعادة تدوير لصورة مكرورة حتى التخشّب: صاحب شركة ثري، موظفة عادية، علاقة تلتفّ حولها الحوارات المصطنعة، وهدايا يطلب نصيحتها فيها بحجة أنه يحتار ماذا يقدّم لزوجته، بينما الهدف الحقيقي هو الاقتراب منها. هذه ليست رومانسية، بل استهلاك كليشيهات قديمة دون أي محاولة لتطويرها.
خيانة مغلّفة بورق سلوفان
الأخطر أنّ الفيلم يتعامل مع الخيانة كمنطقة رمادية يمكن تبريرها، وكأن الظروف تجعل كل شيء “مفهومًا” ومقبولًا. هنا لا نرى جرأة في طرح قضية حساسة، بل نرى تخبّطًا في الرؤية الأخلاقية. العمل لا يطرح سؤالًا أخلاقيًا حقيقيًا، بل يمرّ من فوق الفكرة مرورًا خفيفًا، وكأنّ كل ما يهمّه هو الوصول إلى نهاية عاطفية مهما كانت الكلفة على منطق القيم.
أخطاء إخراجية تكشف هشاشة العمل
حين تغيب الصرامة في الكتابة، تنعكس الفوضى في التفاصيل البصرية أيضًا. في الفيلم أخطاء إخراجية لا يمكن إغفالها: قلم يختفي من الغلاف فجأة، سارة تقع على الأرض فيأخذها إلى السرير وهي ما زالت تنتعل حذاءها، وكأنّ المشهد لا يحتاج إلى حدّ أدنى من الواقعية، وعدم انتباه إلى الوشم في يدها الذي يفترض أن يكون علامة فارقة يمكن أن تفضح الهوية في لحظة.
إلى جانب ذلك، يخرج الأداء التمثيلي في معظم اللحظات على أنه أداء “يقول إنه تمثيل” بدل أن يُشعرنا بأننا نرى حياة حقيقية. لا صدق في الانفعالات، لا عمق في البناء، لا ظلال لشخصيات من لحم ودم. مجرد حوار يقال أمام كاميرا، من دون روح.
في سنة منافسة… فيلم يعود بنا إلى الخلف
نحن في عام يفترض أن تشهد فيه الصناعة الفنية منافسة حقيقية، حيث تسعى الأعمال إلى رفع السقف وإلى اللحاق بما يقدمه العالم من جودة في الكتابة والإخراج. وسط هذا المشهد، يأتي فيلم مثل “إنت مين” ليعيدنا سنوات إلى الوراء، ويذكّرنا بأن المشكلة ليست في نقص الأفكار، بل في غياب المعايير.
لا رؤية فنية حقيقية، لا صناعة واعية، لا احترام لذكاء المتفرج. حبكة تقوم على زواج غير منطقي، وصدف غير مقنعة، وخيانة مبررة بالصمت، وأخطاء إخراجية مكشوفة، وأداء تمثيلي باهت. في النهاية، يجد المشاهد نفسه أمام سؤال واحد يختصر كل شيء: من سمح لمثل هذا العمل أن يمرّ، وأن يُقدَّم على أنه فيلم جاهز للعرض في زمن يقال إنّ الدراما فيه تتطور؟
الخلاصة
“إنت مين” ليس مجرد فيلم ضعيف. إنه مثال حيّ على انهيار الرقابة الفنية على النص وعلى الصورة، وعلى غياب الحدّ الأدنى من احترام عقل المشاهد. بدلاً من أن يقدّم حكاية تستحق أن تُروى، يقدّم عرضًا طويلًا لفوضى في البناء، واستهتار في المنطق، واسترخاص في صناعة المشهد.
في النهاية، الفيلم لا يترك في ذهن المتفرج إلا هذا الانطباع القاسي: نحن أمام عمل لم يكن جاهزًا ليولد، ومع ذلك وُلد، وعُرض، وطُلب منا أن نصدّقه. والنتيجة أن الجمهور خرج وهو يردّد عنوانه على شكل سؤال موجّه إلى الصنّاع أنفسهم قبل أي أحد آخر:
إنت مين… كفيلم، وكفكرة، وكجزء من صناعة تدّعي أنها تريد أن تتقدّم.
شربل الغاوي
مخرج وصحافي وناقد سينمائي