
شو كارلوس أحسن منّي؟… عنوان أذكى من مسرحيته – شربل الغاوي
منذ لحظاته الأولى، يكشف العمل عن ارتباكه الداخلي بلا مواربة. الحوار الافتتاحي بين الموسيقي رجا (وسام صليبا) ومدير أعماله جوني (عبد الرحيم العوجي) طويل، مثقل، قائم على نكات ظرفية لا تولد من الشخصيات ولا من الصراع، بل تُلقى عليها إلقاءً. الضحك هنا ليس نتيجة تصاعد درامي، بل ردّ فعل لحظي: من يلتقط المرجع يضحك، ومن لا يملكه يُقصى بصمت. والمسرح، حين يتحوّل إلى نكتة داخلية، يخون أحد شروطه الأساسية: أن يكون مكتفيًا بذاته، لا رهينة ذاكرة عروض سابقة أو معرفة خارج الخشبة.
منذ البداية، يبدو العمل مشغولًا بالشكل أكثر من المعنى. ديكور أنيق، مطبخ مرتب، إضاءة دافئة، شجرة ميلاد، شموع… كل العناصر البصرية حاضرة، مصقولة، جاهزة للعرض. لكن هذه العناية لا تتحوّل إلى رؤية. الصورة تتقدّم على الفكرة، والديكور يسبق النص، وكأن الخشبة تحاول إقناعنا بما عجزت الكلمة عن حمله. هنا، الجمال لا يخدم الدراما، بل يستر فراغها.
عبد الرحيم العوجي، في المقابل، يملك الخشبة بأدائه. حضوره قوي، فاعل، مسرحي بامتياز. هو ممثل يعرف كيف يملأ الفراغ بجسده وصوته وإيقاعه. تنقّله بين الأزياء ، روب، بابا نويل أخضر، زيّ روسي، بدلة ، ورغم فقر الدلالة الدرامية لهذه التحوّلات، يبقى مشغولًا بطاقة داخلية حقيقية. هو لا يختبئ خلف القناع، بل يفرض نفسه رغم القناع. ومع ذلك، فإن هذا الاستعراض الشكلي للأزياء لا يبني شخصية بقدر ما يكشف ارتباك النص. الكوميديا هنا لا تُبنى من الداخل، بل تُرتدى من الخارج، حتى لو أن الممثل يملك أدوات تفوق ما كُتب له.
في مقابل هذا الحضور الطاغي، يبدو وسام صليبا ملتبكًا. ليس بالضرورة ضعفًا شخصيًا، بل نتيجة طبيعة الدور وطبيعة الوسيط. وسام صليبا موسيقي وصاحب صوت جميل، واسمه حاضر بقوة، لكن المسرح ليس الكاميرا. في الدراما التلفزيونية، تساعده العدسة، تقترب منه، تلتقط التفاصيل الدقيقة، وتمنحه صدقية أكبر. على الخشبة، حيث كل شيء مكشوف، يبدو أحيانًا كمن يؤدي بروح درامية لا مسرحية. في لحظات عدّة، تشعر أنه “يمثّل للكاميرا” على خشبة لا ترحم. المسرح يحتاج جسدًا، إسقاطًا، حضورًا متماسكًا في الفضاء، لا مجرد أداء داخلي.
دخول ليليان (جنيفر يمين) يفتح بابًا جديدًا للالتباس. امرأة تُقدَّم كأجنبية تتكلم العربية بلكنة مكسّرة غير مفهومة، من دون أي مبرّر درامي واضح. هذا الخيار لا يُشتغل عليه ولا يُفكَّك، بل يُترك معلّقًا، ثم يُبرَّر لاحقًا على عجل بأن جوني هو من “لفّق” القصة. هكذا لا يخدم النص شخصياته، بل يستخدمها كحلول ترقيعية لثغرات هو نفسه من صنعها.
تمثيل جنيفر يمين في المشاهد الحوارية يبدو مصطنعًا، متكلّفًا، ومفروضًا على الإيقاع. لكن المفارقة القاسية أن صوتها الغنائي جميل جدًا. حين تغنّي، يتبدّل كل شيء: الإيقاع، المزاج، وحتى انتباه الجمهور. وحين يتوقف الغناء ويعود الكلام، يعود الفراغ. الغناء هنا لا يخدم المسرحية، بل يفضح ضعفها، لأن العمل الذي يحتاج إلى الأغنية كي يتماسك، يعترف ضمنيًا بأن النص عاجز عن حمل نفسه.
العلاقة العاطفية تُبنى بسرعة غير مبرّرة: كسر اتفاق، تقارب جسدي، حبّ خاطف بلا مسار. لا صراع، لا مقاومة، ولا أي تراكم شعوري. كأن المسرحية تقفز فوق المراحل خوفًا من مواجهتها. الحب هنا ليس نتيجة رحلة إنسانية، بل وضعية مسرحية جاهزة تُفرض على المشهد بدل أن تنمو داخله. هو حب مكتوب ليُقال، لا ليُعاش.
العنوان «شو كارلوس أحسن منّي؟» يوحي بإسقاط ذكي، مستوحى من قصة كارلوس غصن: النقل، الصندوق، البراد، الهروب. لكنه يبقى ذكاءً اسميًا فقط. العنوان أذكى من المتن، والرمز أكبر من استخدامه. بدل أن يكون مدخلًا لقراءة سياسية أو اجتماعية أو ساخرة، يتحوّل إلى نكتة لغوية تُستهلك بسرعة وتُرمى جانبًا.
المسرحية لا تحسم هويتها. هي ليست عائلية بما يكفي، ولا طفولية بوعي، ولا غنائية بقرار، ولا كوميدية ببناء. هي “ليلة ميلاد” في الشكل، لكنها بلا روح الميلاد. طقوس وأضواء وعناصر احتفالية تتراكم، من دون أن تُنتج معنى أو موقفًا.
نص وليد اليازجي يلمّح أكثر مما يقول، يفتح أفكارًا ولا يذهب بها إلى نهايتها، ويستعيض عن البناء بالقفز. إخراج لينا أبيض يمنح الصورة عناية واضحة، لكنه لا يحسم الرؤية. الإخراج هنا يجمّل النص بدل أن يواجهه، والتجميل لا يعوّض غياب العمود الفقري.
في المحصّلة، «شو كارلوس أحسن منّي؟» ليس عملًا بلا لحظات، لكنه مسرحية بلا قرار. عبد الرحيم العوجي يملك الخشبة، الأصوات جميلة، الصور أنيقة، والمشاهد متفرقة… لكن من دون اتجاه واضح. والمسرح، مهما بدا لامعًا، لا يعيش على الديكور، ولا على النكتة، ولا على الغناء وحده. يعيش على فكرة، وعلى موقف، وعلى شجاعة أن يعرف ماذا يريد أن يكون.
وهنا، هذا السؤال بقي معلّقًا.
والمعلّق في المسرح… يسقط.
شربل الغاوي
مخرج وصحافي وناقد سينمائي