
مسرحية أبطال الظل … ضوء كثير، ظلّ أكثر – شربل الغاوي
مسرحية «أبطال الظل»… حين يخرج المجهولون من هوامش شكسبير إلى واجهة التاريخ
لا يعود المتفرّج من «أبطال الظل» كما دخل. فالعرض الذي يقدّمه «مسرح كون» بإدارة أسامة حلال لا يكتفي باستعارة نصوص وليام شكسبير، بل يقتحمها من باب آخر تمامًا: باب الشخصيات التي لم يُكتب لها مجد البطولة ولا حتى نعمة الاسم.
إنّه مسرح عن الذين بقوا في الهامش، في الفراغات، في الجمل الاعتراضية… عن القتلة المجهولين والضحايا المنسيّين، وعن كلّ من مرّت حياتهم مرورًا عابرًا في كتب التاريخ.
شكسبير يُداس عليه… لا يُدرَّس
منذ اللحظة الأولى، نواجه صورة لا تُنسى: ممثلون يقفون فوق كتب شكسبير، يلفّونها ويحرّكونها كأنهم يجرّدونها من سلطتها.
الكتاب هنا ليس صندوق الحكمة، بل أرضٌ مشكوك بتاريخها، أرض قامت عليها سلطات وامبراطوريات وجرائم نُسيت أسرع مما دوّنت.
ومن نقطة صغيرة في «ريتشارد الثالث» – مقتل جورج ديوك كلارنس على يد قتلة بلا أسماء – يدخل أسامة حلال إلى مشروع أوسع: إعادة كتابة التاريخ من منظور الذين لم يُمنحوا فرصة الظهور في النص.
أسامة حلال… مخرج يكتب مسرحه فوق الحافة
لا يتعامل أسامة حلال مع المسرح كخشبة، بل كفضاء تجريبي دائم، كحالة.
تقوم إخراجيته على فوضى منظّمة، على كسر الخط المستقيم بين الكلمة والجسد، وعلى جعل الحركة نصًا مستقلًا.
في هذا العرض، يبني حلال لغة بصرية تزاوج بين القسوة والسخرية، بين الضوء الداكن وحركة الجسد الحادة، ويخلق عالمًا يُشبه مختبرًا يراقب سلطة تنهار من الداخل.
المخرج هنا لا يقدّم عرضًا، بل يقدّم محاكمة مسرحية للتاريخ، حيث يصبح كل شيء .. الكتاب، الخوذة، الورقة، الصورة ، جزءًا من نظام يحاول الجمهور تفكيكه قطعة قطعة.
أوراق اللعب… حين تصبح السياسة لعبة مكشوفة
الكوتشينة ليست زينة.
هي البنية الفلسفية للعرض:
ورقة ترتفع، ورقة تُسقط، ملك يهيمن، خاسر يختفي.
كل ورقة تشبه سلطة، وكل حركة فوق الأوراق تشبه قرارًا سياسيًا.
وهكذا تتحوّل الخشبة إلى كازينو، حيث العدالة تخضع للحظّ، والتاريخ يُعاد ترتيبه بضربة واحدة.
وتكشف الصور المسرحية هذه الثنائية بوضوح: أجساد تقف على أوراق اللعب، تقف على خوذات، تقف على كتب، كأن العرض يقول:
«هذا العالم بُني فوق ما لم يُقَل… لا فوق ما كُتب.»
الخوذ والكتب… ثقل السلطة فوق الجسد
تتكرر الصور التي تكشف البنية القمعية:
جسد يرتفع فوق خوذتين، ممثلتان تتحمّلان الوزن، وأخرى تحاول الصعود إلى نقطة ضوء ضئيلة.
هذه الحركة ليست مشهدًا فحسب، بل تمرينًا سياسيًا:
كيف ترتفع سلطة؟
كيف ينهار جسد؟
كيف تشتدّ علاقة القمع بين الأعلى والأسفل؟
أما الكتب، فتتحوّل من مصدر معرفة إلى منصّات هشّة تتكسّر في لحظة، كأنها تقول:
«لا تثقوا بالتاريخ… فهو أوّل من يسقط حين تهتزّ الأرض.»
من جورج كلارنس إلى بيروت… التاريخ الذي يكتبه الناجون
لا يصرخ العرض بشعارات سياسية، لكنه يترك ظلالها تمرّ:
الاغتيالات التي تُعلن ثم تختفي، المحققون الذين يستقيلون، الملفات التي تضيع، المرفأ الذي يظهر كجرح في الخلفية من دون أن يُسمّى.
الأسئلة تُطرح من دون أن تنطق:
من الذي كتب تاريخ هذه المدينة؟
من الذي محا أسماء ضحاياها؟
ومن الذي قرر أن القاتل هو من يملك الورقة الأخيرة؟
الكوميديا السوداء… ضحكٌ على حافة الهاوية
الضحك هنا ضرورة أخلاقية، لا زينة إخراجية.
الممثلون يضحكون كي لا ينهاروا، والجمهور يضحك كي يستطيع أن يواصل المشاهدة.
هي الكوميديا التي تقول الحقيقة من دون أن ترفع صوتها، وتكشف هشاشة السلطة من دون صراخ.
الدراماتورجيا… هاشم عدنان مهندس الظلال
لا يمكن قراءة «أبطال الظل» من دون الوقوف طويلًا عند الدراماتورجيا التي صاغها هاشم عدنان.
فالنص هنا ليس نصًا تقليديًا، بل خريطة نفسيّة تتحرّك بين النص الأصلي لشكسبير والنص الموازي الذي يكتبه الزمن.
يعمل عدنان على إزالة طبقات السرد التي تُبعد الشخصيات الهامشية عن الضوء، ويعيد ترتيب الحوار كي يكون صدى لأصوات لم تُسمَع في النص الأول.
الدراماتورجيا التي يقدّمها هي دراماتورجيا تفكيك وإعادة تركيب:
تفكيك للقوة، للبطولة، للقتل، وللسلطة؛
وإعادة تركيب لصوت الشخصيات التي تخرج من الظلّ إلى مكانها الطبيعي في مركز السؤال.
يحوّل عدنان النص إلى شبكة علاقات: علاقة القاتل بالمقتول، علاقة النص بالذاكرة، علاقة الممثل بدوره، وعلاقة السلطة بجثثها التاريخية.
إنها دراماتورجيا مكتوبة بحسّ سياسي عميق من دون أن تتحوّل إلى خطاب، وبوعي جمالي لا يطفو على السطح بل يعمل تحت جلد المشاهد.
أداءات تمثيلية تُكتب باللحم والعصب
بسام أبو دياب… جسدٌ يبحث عن مكانه في نصّ لا يعترف به
بسام يقدم شخصية مشطورة بين رغبة في الظهور وقلق من الاختفاء.
حركته حادّة، صوته يعلو ويهبط بإيقاع يعبّر عن صراع داخلي دائم، ووقفته فوق «السلطات الصغيرة» على الخشبة تشبه وقوف إنسان يحاول أن يتوازن فوق تاريخ يرفضه.
بسام لا يؤدي دورًا فقط؛ بل يؤدي سؤالًا:
من يكون الممثل حين يرفض النص الاعتراف به؟
تمارا حاوي… حضور ممثلة تعرف قيمة الاسم قبل أن يُقال
تتقدّم تمارا بثقة ممثلة تملك لغة جسد واضحة ومنسجمة مع نفسها.
حضورها يقود الإيقاع، وجرأتها تنبع من فهمها الداخلي للعلاقة بين السخرية والخطر.
هي ممثلة لا تمشي على الخشبة… بل تتملّكها.
ولأنها ابنة مدرسة مسرحية متينة، فهي لا تقلّد أحدًا، بل تصنع مساحتها الخاصة.
ماري تيريز غصن… الجسد الذي يكتب ما لا يكتبه النص
لحظة دخولها وحدها تكشف ممثلة تعرف وزن حضورها.
حركتها تشبه اعترافًا طويلًا، وصمتها يشبه صرخة لا تحتاج إلى صوت.
في المونولوج الجسدي، تُخرج طبقة درامية لا تحتاج إلى ترجمة ولا إلى كلام.
إنّها ممثلة تكتب بالجسد كما يكتب الشعراء بالمجاز.
الموسيقى والترجمة… نبضٌ يردم الفراغ
الموسيقى ليست خلفية، بل جهاز تنفّس للعرض.
تعلو حين يعلو التوتر، وتنخفض حين تصبح الحركة أبلغ من الصوت.
أما الترجمة على الجدار، فتجعل الأسئلة عالمية، لا تخصّ مدينة أو بلدًا واحدًا.
الاعتراف بالفشل… لحظة أخلاقية وسط الخراب
حين يعترف العرض بأن محاولة تقليد القتلة الحقيقيين انتهت بالفشل، لا يبدو الأمر اعترافًا بالضعف، بل إعلانًا عن رفض الانتماء إلى آلة القتل نفسها.
إنّه فشل أخلاقي جميل… لا ينحني للسلطة.
الممثل… بطل الظل في مهنة تكسر أصحابها
لا يتحدث العرض فقط عن شخصيات شكسبير، بل عن الممثل نفسه:
عن هشاشته، عن مواجهته للحاضر، وعن مهنته التي لا تمنحه البطولة إلا في لحظة التصفيق الأولى.
ملاحظة نقدية حول مدة العرض
يمتد العرض قرابة ساعة ونصف. وعلى الرغم من أن هذا الزمن يسمح ببناء طبقات ثقيلة، إلا أن تقصير العرض بضع دقائق قد يزيد من حدة الإيقاع في الثلث الأخير، من دون المسّ بجوهره.
خلاصة… مسرح يفتح الملفات بدل أن يُغلقها
«أبطال الظل» ليس عرضًا يقدم أجوبة؛ بل عرضًا يفتح ملفات:
ملفات القتلة الذين لم تُذكر أسماؤهم،
الضحايا الذين ضاعت سيرهم،
المدن التي انفجرت بلا عدالة.
إنه مسرح سياسي بلا خطاب، وجسدي بلا استعراض، وجمالي بلا تزييف.
مسرح يترك المتفرّج أمام سؤال واحد:
كم بطلًا حقيقيًا بقي في الظلّ، فيما كتب القاتل اسمه بالحبر الغامق؟
شربل الغاوي
مخرج وصحافي وناقد سينمائي