
مسرحية «إنتاج محلّي»… كثرة الرسائل، حضور الممثّل، غياب المسرح، وعرض يتكلّم كثيرًا… ويقول قليلًا – شربل الغاوي
منذ اللحظة الأولى، يبدو أنّ «إنتاج محلّي» لا يريد التخفّي خلف حبكة ولا يريد إيهام المتفرّج بعالمٍ متخيَّل. العمل يختار بدلًا من ذلك أن يقدّم حياةً كما هي، حياة رجل فقد موقعه في الصناعة، وحياة فنّان يحاول أن يستعيد صوته داخل غرفة مغلقة تشبه روحه. وأكثر ما يرسّخ هذا الانطباع هو ظهور يوسف الخال بروب منزلي طيلة العرض. روب منزلي ليس تفصيلًا شكليًا، بل إعلان صريح بأن هذه المسرحية ليست دورًا بقدر ما هي يوميّات، وأنّ الممثل لا يتخفّى خلف شخصية بل يطلّ على المشاهد كما لو أنّه داخل بيته أو داخل ذاته.
هذا الروب، الذي عادة يُرتدى في لحظات الخصوصيّة، يتحوّل إلى رمز يلغي الفاصل بين الممثّل وجمهوره. كأنّ يوسف الخال يقول أنا هنا بلا درع، بلا مظهر، بلا قناع. وهنا تحديدًا تتشكّل قوة غير مألوفة في المسرح. لا نرى جيري فقط، بل نرى يوسف بكل إحباطاته ووعيه وإرهاقه، مما يجعل حواره مع سامر عمّار شلق أقرب إلى مواجهة حقيقية بين شخصين يعرفان تمامًا معنى أن يكون الفنان معلّقًا بين مشهد ومشهد، وبين فرصة ضائعة وأخرى مشروطة.
تُطرح داخل المسرحية مسألة المنصّات بشكل مباشر. منصة عربية لها حساباتها، ومنصة غربية تقدّم نفسها كساحة مفتوحة بلا قيود. لكنّ جوهر النقاش لا يدور حول خيار مهني بقدر ما يتعلّق بأزمة هوية يعيشها الفنان اليوم. هل يقبل أن يكون مجرّد محتوى ليُسوَّق؟ هل يرضى بشروط سوق لا يرى في الفنان سوى مساحة قابلة للبيع؟ هل يملك قدرة الرفض حين تضيق الأدوار؟
جيري، أو يوسف بصورة أدق، يعرف هذه الأسئلة جيدًا. يتهرّب منها قليلًا، يعود إليها كثيرًا، ويحاول أن يقنع نفسه بأن الفنّ لا يزال قادرًا على النجاة ولو من بين أصابع منصة أجنبية. أمّا سامر، فيفاوضه بالمنطق البارد للصناعة: المال، الظهور، الشهرة، والتنازلات. وهكذا يصبح الحوار اشتباكًا بين ما تبقّى من المبدأ وما تفرضه الحاجة.
وتحت هذا الاشتباك يبقى حضور بيروت قائمًا كظلّ لا يغيب. الإشارة المتكرّرة إلى انفجار العاصمة تعمل كجرس داخلي يقرع من دون أن يُناقش مباشرة. المدينة بجرحها تختبئ تحت كلام الشخصيتين، وتذكّر بأن حياة الفنان هنا لا تنفصل عن الواقع المأزوم، ولا عن بلد يعيش على خطوط التماس بين الأمل والانهيار.
حتى ذكر فيلم مئة طريقة للموت في بيروت ليس تعليقًا عابرًا. إنه انعكاس لمدينة لا تزال تبحث عن طريقة واحدة للحياة بين كل تلك الطرق التي طُبعت في ذاكرتها.
وتأتي عبارة الجنازة أهم من الميت، والعرس أهم من الحب كإحدى أقوى لحظات النص. ليست حكمة عابرة، بل مرآة لواقع اجتماعي يعلي شأن الشكل على الجوهر، والمشهدية على الصدق. هذه الجملة تلخّص منطقًا يتجاوز المجتمع إلى صناعة الفن نفسها. العنوان أهم من المضمون، الظهور أهم من القيمة، والضوضاء أهم من الحقيقة. وهي جملة تضع المتفرّج أمام قسوة الاعتراف بأن المأساة لم تعد في ما يحدث، بل في كيفية استهلاكنا له.
غير أنّ المسرحية، رغم عمقها في الطرح، تتعثّر أحيانًا في نكات مباشرة أو تعليقات لفظية لا تضيف إلى السياق، بل تُخفّف من حدّة اللحظة. هذه المقاطع تأتي كاستراحة لغوية، لكنها في الوقت نفسه تنزع بعضًا من قوة الحوار وتعيده إلى منطقة مألوفة لا تحتاجها الفكرة. كذلك الأمر بالنسبة للرسائل التي يوجّهها العمل إلى أصحاب الموتورات وأصحاب الكسّارات وأصحاب المصارف والسياسيين. هذه الرسائل، رغم صدقها، تبدو في بعض اللحظات أقرب إلى تفريغ الغضب منها إلى صياغة نقد فني متماسك، لكنها تبقى ضمن حدود مقبولة ولا تسقط في الخطابية الفجّة.
الإيقاع يتفاوت. بعض المشاهد تمتد أكثر مما ينبغي، وبعض الحوارات تعيد الفكرة بتعابير مختلفة، ما يجعل العرض في لحظات معيّنة يقترب من السرد الطويل أو الدردشة المسرحية. ومع ذلك، فإنّ هذا الامتداد نفسه يعكس حالة الشخصيتين. رجلان عالقان في النقاش نفسه، في الأزمة نفسها، في الدائرة نفسها التي لا يريدان الدخول إليها ولا يستطيعان الخروج منها.
أما مشاهد الرقص تحت أضواء تتحرّك في القاعة، فهي تلعب دورًا رمزيًا لافتًا. فجأة تتحوّل الغرفة العادية إلى مساحة احتفال، لكن الاحتفال نفسه يبدو هشًا ومصطنعًا ومؤقتًا. الضوء يدور والموسيقى تعلو، لكن التعب يظل ظاهرًا على وجهي الشخصيتين. وكأن العرض يقول إن الفرح هنا ليس أكثر من خدعة ضوء في حياة مزدحمة بالأسئلة.
أما الإخراج بتوقيع مارك قديح فيظهر ممسكًا بالفضاء المسرحي، واثقًا من إدارة الطاقة التمثيلية، لكنه أقل صرامة في ضبط الإيقاع. قديح يمنح العرض حرّيته، ويمنح الممثلين مساحة واسعة ليقولوا ما يريدون قوله، وهذه خطوة تُحتسب له، لكنها في الوقت نفسه تُبرز غياب التحرير الدرامي الذي كان سيشدّ النص أكثر ويمنح التجربة إحكامًا أكبر.
هناك لحظات يبرع فيها الإخراج في خلق انتقالات عاطفية وبصرية واضحة، ولحظات أخرى يترك فيها النص دون إمساك كامل، فيبدو الثقل أكبر من الهيكل.
في المحصّلة، «إنتاج محلّي» ليست مسرحية عادية. إنها عرض يعرّي حياة ممثل، ويقطع المسافة بينه وبين الجمهور، ويحوّل الروب المنزلي إلى إعلان بلاغي يقول هذه حياتي كما هي وهذا الفن كما نعيشه في هذا البلد.
عمل يحمل صدقًا كبيرًا ووجعًا هادئًا وأسئلة لا تبحث عن جواب بقدر ما تبحث عن مكان لتُقال فيه.
ومهما تعددت القراءات يبقى أنّ يوسف الخال وعمّار شلق قدّما على الخشبة ليس إنتاجًا فنيًا فقط، بل إنتاجًا إنسانيًا لا يمكن تجاهله، وأن مارك قديح، رغم ملاحظات الإيقاع، يمنح هذه المواجهة المسرحية إطارًا يسمح لها بأن تكون صادقة وشخصية وحاضرة.
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي