Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

سعد رمضان في «مش غلط»… الصوت الذي حرّك وجعًا نائمًا في القلب – شربل الغاوي

سعد رمضان

سعد رمضان في «مش غلط»… الصوت الذي حرّك وجعًا نائمًا في القلب – شربل الغاوي

هناك لحظات في الفنّ لا تهبط كمتعة… بل تضرب كـ رجفة قدر. لحظات لا تدخل من الأذن، بل تقتحم الروح كما تقتحم الصدمة قلب إنسانٍ ظنّ أنّه نجا من وجعه، فإذا بالحقيقة تمسكه من يده وتعيده إلى الجرح الأول. «مش غلط» بصوت سعد رمضان ليست أغنية تمرّ على السمع؛ إنّها زلزال داخلي يوقظ ما نام، ويكشف ما اختبأ، ويبعثر ما رتّبه الصمت في زوايا القلب. إنّها نبضة تهدم ما تراكم من غبار على الذاكرة، وتعيد ترتيب المشاعر التي خنقها الليل، وتعب منها القلب، وارتجفت أمامها الأيام.

أداء سعد رمضان هنا لا يُغنّي… بل يمزّق الحاجز الأخير بين الصوت والدمع. صوته لا ينطق الكلمات، بل يوجّعها، يضغط عليها حتى تنفجر بمعانيها، ويجعل كلّ حرف يسقط من فمه كأنه حجرٌ سُخّن بالألم وأُلقي مباشرة فوق القلب. إنّه صوت رجل لم يعد يهرب من ذاكرته، بل يواجهها ويتعمّق فيها حتى الغرق… غرقٌ بكرامة لا تنكسر، وبرقّةٍ تشبه يدًا ترتجف وهي تلمس ندبة قديمة ما زالت ساخنة رغم مرور السنين.

هذا ليس افتتاح أغنية…

بل بابٌ يُشرَّع على وجدانٍ كان ميتًا واستعاد نبضه،

بابٌ إذا فتحته، لن تعود كما كنت قبل أن تسمع هذا الصوت.

كلمات تشرّح الذاكرة دون أن تنزف حرفًا زائدًا

الكلام الذي خطّه الشاعر مايك صافي في «مش غلط» ليس من ورق، بل من لحم الذكريات. «بعدا عيونك متل مبارح…» جملة واحدة تقطع صمت العمر، وتعيد إلى السطح كلّ ما حاولنا دفنه بكرامة. ليست مجرد وصف لعينين، بل استدعاء لروح لم تغادر، وحضور لم يصدأ رغم مرور الوقت، ووجع يطلّ برأسه كأنّه يسأل: أحقًّا تجاوزتني أم كنت تكذب على نفسك؟ ثم يأتي ذلك الحدّ الحاسم بين الذوبان والحماية: «وين ما تروحي معك رايح… بس من دوني ما بسامح». هنا يقف قلب عاشق، لكنّه غير مكسور؛ قلب يحبّ، لكنّه لا يبيع نفسه. وكلّ «مش غلط» في النص ليست اعتذارًا، بل حكم صادر بعد محاكمة طويلة في محكمة الوجدان: لم نخطئ حين أحببنا، لكنّنا أخطأنا حين ظننّا أن الحبّ وحده يكفي. مايك صافي لا يكتب كلامًا، بل يضع مرهمًا على جرح لا يُشفى كلّيًا، لكنه يهدأ.

لحن يمشي على الحافة… يداوي ولا يجرح

الملحن محمد المعوش لا يقدّم لحنًا بقدر ما يقدّم ندبة جميلة، مرتّبة، تذكّر بالضربة لكن لا تعيد ألمها كاملًا. اللحن يتحرك كمن يسير على أرض مبتلّة بعد ليلة مطر؛ خطوات محسوبة، بلا ارتفاع فجائي يرهق الأذن، ولا هبوط مفاجئ يكسر الإحساس، بل مسار مستقيم يحترم هشاشة المستمع. إنّه لحن يرافقك كرفيق حكيم يضع يده على كتفك ويقول: احزن… لكن قف. محمد المعوش يصنع موسيقى لا تستدرّ الدمع بطريقة رخيصة، بل تفتح له الطريق كي يخرج بكرامة، وتترك بين الجمل الموسيقية مساحات صمت صغيرة، يسمع فيها كلّ واحدٍ منّا صوته الداخلي وهو يكرّر مع النص: «مش غلط…».

توزيع يلمس الألم كما يلمس الطبيب جرحًا طريًّا

في يد الموزّع حسن المعوش، يتحوّل التوزيع إلى علاجٍ موسيقيّ أكثر منه استعراضًا تقنيًا. كلّ شيء هنا يُهدّئ ولا يفجّر، يُربّت ولا يصفع. الوتر لا يُعزف فقط، بل يئنّ، والإيقاع لا يضرب بعنف، بل يتسلّل بخفّة، والخلفية الصوتية تأتي كهواء دافئ يمرّ بين القلب والذاكرة. طبقة فوق طبقة، وصوت فوق صوت، كأنّ التوزيع يضع غطاءً خفيفًا فوق جرح خائف من أن يُفتح بالكامل. ليس هدفه الإبهار، بل حماية المستمع من انهيار كان ممكنًا لولا هذه الرهافة. إنّه توزيع يصدّق على روح النص واللحن، ويمنحهما أرضًا ناعمة يسقط عليها الوجع من دون ارتطامٍ عنيف.

الكليب… فصول الروح في ليلٍ وشتاء ووجوه تحت المطر تسحرك

في الرؤية الإخراجية لسيرج مجدلاني وأندي خاوي، لا يبدو الكليب مجرّد حكاية مصوّرة، بل طقسًا داخليًا كاملًا. الليل ليس ديكورًا، بل غرفة الاعتراف حيث يواجه الإنسان نفسه بلا مرايا. النهار ليس مجرّد ضوء، بل سؤال مفتوح: لماذا خسرنا ما كان يجب أن نحتفظ به؟ الشتاء لا ينزل ماءً فقط، بل ينزل ذكريات وبردًا يتسرّب إلى شقوق القلب التي ظنناها ملتئمة.

وتحت هذا المطر، تصبح الوجوه عالمًا بذاته؛ وجه سعد رمضان، وملامح ميا علاوي، تحت حبات المطر، يبدوان كلوحتين حيّتين تتحركان بين الوجع والصبر. وجوههم تحت المطر تسحرك، تسحبك من واقعك وتأخذك إلى عالم آخر… عالمٍ يتكثّف فيه الحنين حتى يصبح ملموسًا، كأنّ المطر لا يهطل على الأرض، بل على الذاكرة مباشرة. وهنا، يبرز تفصيل إخراجي شديد الدقّة: ميا تحمل المظلّة في البداية، ثم ترفعها فجأة وتترك المطر يسقط على وجهها. كأنّ الحماية لم تعد مناسبة للحظة، وكأنّ الصدق يحتاج وجهًا مكشوفًا. رفع المظلّة ليس حركة… بل اعتراف؛ إعلان بأنّها لم تعد تريد أن تختبئ، وأنّ العاصفة التي يعيشها قلبها أقوى من أي غطاء.

وفي قلب هذا المناخ العاطفي، يبرز الخيار الإخراجي الأهم: سعد رمضان يغنّي بشكل طبيعي تمامًا، لكن الزمن من حوله يتسارع، كأنّ العالم يركض فيما روحه تبقى ثابتة في مكانها. هذه التقنية، المعروفة عربيًا بـ «تصوير مُسرّع مع مزامنة غناء»، أو «تسريع الزمن مع بقاء الأداء واقعيًا»، تمنح الصورة توتّرًا بصريًا عميقًا؛ فالشارع يمرّ كوميض، المطر يتساقط كأنّه يسابق نفسه، أمّا صوت سعد فيبقى واقفًا في مركز العاصفة، لا يتغيّر ولا يستعجل. إنّه التناقض بين سرعة العالم وبطء القلب حين يحزن… بين الوقت الذي يجري، والوجع الذي يرفض أن يجري معه.

أداء الممثلة ميا علاوي يضيف طبقة رقيقة من الأنوثة المجروحة والرصينة في آن. حضورها ليس تمثيلًا متكلّفًا، بل حضورًا أوثَن، ناعمًا، نظيفًا؛ امرأة تمشي داخل المشاهد كما يمشي الصدق داخل الكلام. نظراتها ليست صراخًا، بل لغة داخلية تقف عند حدّ لا يتجاوزه إلا من كُسِر يومًا. رقيّها في الأداء يشبه امرأة تحمل وجعها تحت معطف الشتاء، لا تشتكي ولا تنهار، لكنّ ملامحها تقول كلّ شيء.

ومع تقدّم المشاهد، يتجاوز حضورها حدود الصورة ليصبح إيقاعًا عاطفيًا خالصًا؛ خصوصًا حين ترقص حافية القدمين تحت الشتاء، كأنّها تريد أن تلامس الأرض مباشرة، أن تتأكد أنّ الوجع حقيقي، وأنّ الطريق مهما ابتلّ، ما زال قادرًا على حملها. خطواتها الخفيفة فوق الإسفلت المبلل ليست رقصة، بل مقاومة صامتة؛ إعلان بأنّ الأنثى حين تتألم، لا تختبئ… بل تواجه بعري الروح لا بعري الجسد.

وجود ميا علاوي أعطى الكليب وجهًا للوجع، وترك تحت كل لحظة شتوية ظلًّا ناعمًا للحزن؛ حزن لا يطلب الشفقة ولا يسعى إلى البطولة، بل يريد فقط أن يكون صادقًا. ومع تقدّم اللقطات، لا يأتي الصحو على شكل شمسٍ ساطعة، بل على شكل فهم ثقيل: النهاية ليست خيانة، بل فصل جديد فرضته الحياة كما تفرض الفصول على الأشجار أن تغيّر أوراقها دون استئذان.

خاتمة… أغنية تبكي دون أن تطلب منك أن تبكي

«مش غلط» ليست أغنية رومنسية عادية، بل وثيقة وجدان مكتملة العناصر: كلمات مايك صافي التي تشبه مرثية حبّ ناضج، ولحن محمد المعوش الذي يمشي على الحافة دون أن يسقط، وتوزيع حسن المعوش الذي يلمس الألم برحمة لا بعنف، وصورة مجدلاني وخاوي التي تحوّل الروح إلى فصول متعاقبة، وأداء ميا علاوي الذي يضع وجع الأنثى في مكانه النبيل، وصوت سعد رمضان الذي يوقّع على كلّ هذا الألم كما يوقّع القلب على آخر صفحة في قصة انتهت، لكنها بقيت جميلة رغم انتهائها. «مش غلط» أن نحبّ، وأن نفشل، وأن نبكي، لكنّ الغلط أن نخرج من هذه الأغنية كما دخلناها: غير قادرين على الاعتراف بأنّ ما كسرنا، كان في يومٍ ما أجمل ما جمعنا.

شربل الغاوي

مخرج – صحافي وناقد سينمائي