
رابط الدم : مشروع فيلم خرج إلى الجمهور قبل أن يصبح فيلماً – شربل الغاوي
هناك أفلام، ما إن تُطفأ الأنوار وتبدأ شارة الافتتاح، تشعر أنّك أمام تجربة سينمائية مكتملة، حتى لو كانت ضعيفة. وهناك أفلام أخرى، من اللقطة الأولى، تفضح نفسها: ليست عملاً جاهزاً للعرض، بل «تجربة» كان يفترض أن تبقى في الأدراج، أو تُعرض في قاعة جامعية صغيرة، لا على جمهور يدفع وقته وماله وأعصابه.
«رابط الدم» ينتمي، للأسف، إلى الفئة الثانية: فيلم يشبه بروفة طويلة، مشروعاً تجريبياً لا أكثر، أُجبر قسراً على التصرّف كفيلم سينمائي حقيقي.
واللافت أكثر أنّ السيناريو من كتابة منى طايع، وأن التنفيذ حمل توقيع رنده علم… وهذا يزيد من ثقل الخيبة، لأنّ اسمين معروفين بحرفيتهما كان يُفترض أن يرفعا العمل إلى مكانٍ آخر، خصوصاً أنّ الفيلم يُعرض على منصة جديدة، لكنّك تشعر وكأن صانعيه أنفسهم غير واثقين أن الناس سيتابعونه.
القصة… حين تكون الفكرة أكبر بكثير من تنفيذها
على الورق، يمكن أن تخدعك القصة. فتاة تبحث عن قاتـ ل شقيقتها، قاتـ ل تحميه سلطة نائب نافذ، فتجد نفسها تنجذب إلى شقيق هذا النائب، الرجل الذي يقرّر مساعدتها للوصول إلى العدالة، لتتشابك بينهما مشاعر حب فوق أرض ملغومة بالدم والفساد والانتقام…
إلى هنا، يبدو أننا أمام عمل يمكن أن يبنى عليه فيلم حقيقي: ثأر، منظومة سياسية تحمي المجر م، حبّ يتسلل بين الضحية والعائلة المحمية، صراع أخلاقي بين الدم والقلب، وبين العدالة والعاطفة.
لكنّ المشكلة ليست في الفكرة، بل في ما يُفترض أن يكون «السيناريو» و«الدراماتورجيا». في مرحلة معيّنة، تشعر فعلاً أنّ الحكاية تتّجه نحو مسار جذّاب، وأنّ هناك فرصة لولادة فيلم مشدود الأعصاب. فجأة، وبلا تمهيد درامي مقنع، يُرمى خيط الجريمـ ـة جانباً، ويُركَّز تقريباً فقط على العلاقة بين الفتاة وشقيق النائب.
القضية الأساسية ، البحث عن قاتل الأخت ، تتحوّل إلى ظلّ باهت، كأنها كانت ذريعة للانطلاق ثم نُسيت على طاولة الكتابة. هكذا يتحوّل «رابط الدم» إلى «مشروع فيلم» أكثر منه فيلماً منجزاً: وعدٌ كبير… ثم تخليّ عنه.
الإخراج… جيّد في صورته لكنه «مسلوق» في روحه
الإخراج هذه المرة ليس سيئاً. بالعكس، هناك لقطات جميلة، حركة كاميرا واضحة، قدرة مقبولة على إدارة بعض المشاهد، وإحساس بصري لا يمكن إنكاره. بصمة رنده علم موجودة، لكنّ المشكلة ليست في الجمالية، بل في العجلة.
الفيلم يبدو كأنه مسلوق سلقاً. مشاهد تُقدَّم بلا صقل، أخطاء واضحة تُترك كما هي، لحظات كان يجب إعادة تصويرها مرّات ولم تُعد، لقطات لا تتناسق مع ما قبلها ولا مع ما بعدها، كأن عجلة التسليم فرضت أن يُقدَّم العمل كما هو، بنواقصه وثغراته.
إنه إخراج يمتلك أساساً جيداً، لكنه ينهار تحت ضغط السرعة وغياب التدقيق… فتظهر العيوب أكثر مما يجب، وتبدو المشاهد كأنها مرتّبة على عجل لا على روية.
التمثيل… حين يتعثّر النص فيتعثّر الممثل معه
التمثيل هو الجرح الأكبر. معظم الأداءات لا تنتمي إلى منطق التمثيل الحقيقي. كلمات تُلقى بلا نبض، جمل تُقال بلا إحساس، وجوه لا تعكس ما يحدث، وانفعالات لا تملك سبباً درامياً.
هناك ممثلون يقدّمون أداءً ضعيفاً، ليس فقط لضعف الموهبة، بل لغياب الإعداد والتوجيه. لفظ متعثّر، انفعالات غير مقنعة، وفجوات تجعل المشاهد يشعر بأنه يتابع «بروفة» لا شاشة سينما.
ومع ذلك، يبرز بعض الممثلين الذين يملكون تاريخاً أو خبرة سابقة. هؤلاء يقدّمون ما يستطيعون، يرفعون المشاهد حيث يقدرون، ويبدون كأنهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط كتابة غير مشذّبة وتوجيه غير مكتمل.
وجود الجيّد بينهم لا يجمّل الصورة، بل يفضح الفرق بين ما يمكن للموهبة أن تقدّمه وما يعرقله النص والتنفيذ.
الصوت والـ Lip-sync… ضربة قاضية
الصوت هنا ليس ضعفاً… بل أزمة.
مشاكل تسجيل، تفاوت في جودة الحوار بين مشهد وآخر، إحساس دائم بأن الصوت منفصل عن الصورة. ثم تأتي الكارثة الثانية: الـ Lip-sync.
الحركة في جهة، والصوت في جهة أخرى.
لا تطابق، لا اندماج، لا إقناع.
ما يمكن أن يبنيه الممثل ينهار تماماً أمام هذا الخلل، فيتحوّل المشهد إلى دبلجة مرتجلة، تفصل المتفرّج عن الحدث وتذكّره أنّه أمام عمل لم يخضع لأدنى معايير المراجعة التقنية.
دراما بلا عمق… وشخصيات من ورق
القصة الأصلية .. بتوقيع منى طايع .. تحمل إمكانية بناء صراع إنسانيّ كبير، لكنّ الشخصيات تأتي بلا جذور، بلا تاريخ، بلا وجهة.
لا نعرف دوافع الفتاة إلا سطحياً، لا نفهم صراع شقيق النائب إلا بصيغة مختصرة، ولا يظهر النائب إلا في قالب الشرير الجاهز الذي يقرّر السيناريو رسمه.
بدل أن يعالج الفيلم البُعدين العاطفي والأخلاقي معاً، نجد أنفسنا أمام علاقة عابرة تستولي على الحكاية وتُقصي الجريمة، فتضيع العدالة ويضيع الحب في مساحة ضبابية لا تُشبه ما وُعدنا به في البداية.
مسؤولية احترام الجمهور
الخلل الأعمق في «رابط الدم» ليس ضعف التنفيذ فقط، بل الإحساس بأن العمل خرج إلى الجمهور قبل أن ينضج. السينما ليست مكاناً لاختبار الاحتمالات، بل منصة تتطلّب احتراماً لعين المشاهد وذائقته وصبره.
من حقّ أي صانع عمل أن يجرّب، لكن من حق الجمهور أيضاً ألّا يكون جزءاً من التجربة، بل أن يتسلّم عملاً جاهزاً، مكتملاً، محكوكاً، لا مسوّدة في هيئة فيلم.
في النهاية، «رابط الدم» – رغم اسم منى طايع على الورق واسم رنده علم على الكاميرا – كان يمكن أن يكون فيلماً مشدوداً، مؤلماً، يمشي على حدّ السكين بين الحب والدم والعدالة. لكنّ ما وصل إلينا هو عمل جميل بصرياً في أماكن كثيرة، لكنه مسلوق، متسرّع، مليء بالأخطاء، يضيع فيه النص، ويترنّح فيه الأداء، ويغرق فيه الصوت.
ويبقى الانطباع الأخير واضحاً: أننا أمام فيلمٍ كان يمكن أن يكون… لكنه لم يُمنح الوقت ليصبح.
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي