
أمّ في الخدمة… فيلمٌ يهرب من الكليشيه ليقع في فخّه – شربل الغاوي
ليست كلّ خدمةٍ بطولة، ولا كلّ هروبٍ نجاة.
في فيلم «أمّ في الخدمة»، من كتابة كلوديا مرشليان وإخراج رندة علم، تُستعار تفاصيل الحياة اليومية لتُروى حكايةٌ من وجعٍ بسيطٍ لكنه متجذّر: امرأة تهرب من ماضٍ يطاردها، لتجد نفسها في خدمةٍ جديدة… لا تُشبه العمل بقدر ما تُشبه الفخّ.
الحبكة: هروبٌ يتحوّل إلى فخّ
القصة ليست جديدة، لكنها محكمة البناء.
امرأة تُدعى لمى (جوي حلاق) تهرب من زوجٍ عنيف (محمد ياغي، ضيف الشرف)، لتجد مأوى مؤقتًا في فرنٍ يعمل فيه سامر (أيمن حموي)، الرجل الغامض الذي يملك أكثر مما يُظهر.
في الظاهر، هو صاحب عملٍ بسيط، لكن في العمق شخصيةٌ دقيقة الحسابات، تعرف كيف تُخفي أهدافها تحت طبقةٍ من الهدوء الظاهري.
يدور الصراع الحقيقي بينه وبين رامي (يانال منصور)، الرجل الذي خسر منزله لطليقته التي على علاقةٍ بصاحب الفرن.
رامي يستخدم لمى كوسيلةٍ لتجسّسٍ صغير على سامر، بإقناعها بزرع كاميرا داخل المكان. وهكذا تتحوّل المرأة الهاربة من قسوةٍ إلى قسوةٍ أخرى، ومن ضحيةٍ إلى أداةٍ في لعبةٍ أكبر منها.
الأداء التمثيلي: الواقعية حين تتعب ملامحها
جوي حلاق قدّمت أداءً صادقًا في نبرته، لكنها لم تبتعد عن الكاريكتير التعبيري الذي اعتدناه منها في أدوارٍ سابقة.
ملامحها المرهقة جميلة لكنها متوقَّعة، وتحتاج إلى خرقٍ جديدٍ في الأداء يكسر الإيقاع النمطي لعينيها وابتسامتها المكرّرة.
هي ممثلة تملك الأدوات، لكنها ما زالت تدور في نفس المدار الآمن الذي يُقلّل من قدرتها الحقيقية على المفاجأة.
في المقابل، يانال منصور (رامي) حمل الفيلم على كتفيه بجدارة.
قدّم شخصية مركّبة تجمع بين الغضب والذكاء، بين الرغبة في استعادة ما خسره وبين الخوف من مواجهة نفسه.
في كل مشهدٍ له، هناك طبقة خفية من المعنى تُقال بالصمت لا بالكلمات.
أما أيمن حموي (سامر) فكان وجه الفيلم المزدوج: الصلابة الهادئة والعقل الماكر.
أداؤه متقن ومبني على اقتصادٍ في الحركة والكلمة، كمن يعرف كيف يُمسك بالمشهد من دون أن يصرخ.
في نظراته هيمنة خفيّة، وفي نبرته سلطة لا تُعلن نفسها، فظهر سامر كالرجل الذي يتحكّم بالآخرين وهو يتظاهر بالعاديّة.
هو ليس بسيطًا، بل ذكيٌّ حدّ الغموض، يُخفي في ابتسامته دهاءَ من يُدير اللعبة من الخلف.
محمد ياغي بدوره كان لافتًا رغم قصر ظهوره.
تحوّله من رجلٍ يائس إلى مهزومٍ نفسي كان من أجمل لحظات الفيلم، إذ استطاع أن يترجم الألم إلى صمتٍ موجعٍ لا يحتاج إلى جمل.
أما تالا محمود، فبدت مخلصة في انفعالها، لكن أداؤها ظلّ أقرب إلى المسرح منه إلى الكاميرا، ما جعل التعبير أحيانًا أكبر من اللقطة.
الإخراج: حين يكون الصمت بطلًا أيضًا
رندة علم وقّعت العمل بعينٍ تلتقط ما وراء الحدث لا ما أمامه.
لم تجرِ وراء الإيقاع السريع أو المفاجآت المفتعلة، بل اختارت الصدق الإنساني كلغةٍ إخراجية.
حافظت على الإيقاع البطيء المعبّر، واستخدمت الضوء والظل كترجمةٍ نفسية للشخصيات.
ورغم المشكلة التقنية في الصوت في الافتتاحية، فإنّ الإخراج استعاد قوّته سريعًا، وتمكّن من خلق توازنٍ بين واقعية المكان وشاعرية الصورة.
المضمون: حين تُصبح الأمومة خديعة
«أمّ في الخدمة» لا تحكي عن خدمةٍ منزلية، بل عن خدمةٍ عاطفية تُقدَّم من دون مقابل.
كل شخصية هنا تُرضع غيرها من تعبها:
لمى أمّ لوجعها، وسامر أمّ لسلطته، ورامي أمّ لهزيمته.
في النهاية، الكلّ في الخدمة… لكن لا أحد في الخلاص.
الخاتمة
الفيلم لا يقدّم جديدًا في الفكرة، لكنه يقدّم الصدق في التنفيذ.
هو عملٌ لا يُعلّم، بل يُعرّي، ويترك المشاهد أمام مرآةٍ يرى فيها هشاشته الخاصة.
من الكليشيه خرج، لكنه لم ينجُ منه تمامًا؛ ومع ذلك، يظلّ مثالًا على كيف يمكن للإخراج والإيقاع أن يرفعا نصًا مألوفًا إلى تجربةٍ تستحق التوقّف عندها.
إنه تذكيرٌ بأنّ الخدمة ليست دائمًا شرفًا… أحيانًا تكون قيدًا بوجهٍ مبتسم.
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي