
Rosemary… حين يتحوّل المسرح إلى حوارٍ داخلي لا يسمعه أحد – شربل الغاوي
ثمّة مسرحيات لا تُشاهَد فحسب، بل تُحسّ كأنّها تنبض داخل المتفرّج، تمتحن وعيه، وتدعوه إلى أن يختار بين ما يراه وما يظنّه. Rosemary التي قدّمها مسرح شغل بيت على خشبة مسرح مونو، من كتابة إيلي مكرزل وإخراج شادي الهبر، لم تكن عرضًا عاديًا، بل تجربة فكرية وعاطفية في آنٍ معًا.
عمل يضع المشاهد أمام مرآتين متقابلتين، إحداهما تفكّر، والأخرى تشعر، إحداهما ترتدي الأسود وتتكئ على المنطق، والأخرى تتلفّح بالأحمر وتفيض نبضًا، كأنّ العقل والقلب يواجهان بعضهما في غرفةٍ مغلقةٍ من الذاكرة.
ثنائية اللون والشخصيّة
اللون في Rosemary ليس مجرّد ديكور.
بياريت قطريب، بثوبها الأحمر، كانت تجسّد القلب، أنوثة نازفة تتكلّم بدمها أكثر مما تتكلّم بلسانها.
في المقابل، ظهرت مايا يمين بالبدلة السوداء، صلبة الملامح، تزن الكلمات كما يزن العقل القرارات.
هنا لم يكن التناقض بصريًا فقط، بل وجوديًا، كلّ واحدة تمثّل نصفًا مفقودًا من الأخرى، وكلّ حوار بينهما كان أشبه بمحاكمة داخل نفسٍ واحدةٍ تبحث عن خلاصها من ذاتها.
الكتابة الأولى والخروج من المألوف
الكاتب إيلي مكرزل، في أولى تجاربه المسرحية، قدّم نصًّا يختلف عن السائد في المسرح اللبناني المعاصر. لم يعتمد على العقدة التقليدية أو على الانفجار الدرامي المعتاد، بل ترك النص يتنفس بهدوء، يلتف حول الفكرة لا الحدث، ويزرع الأسئلة بدل الإجابات.
القصة هنا تبدأ من السكون، من لحظةٍ تبدو مملّة ظاهريًا، لكنها تتكشّف ببطء كاعترافٍ طويلٍ بين الذات وصورتها، بين الذاكرة ووجعها. هذا البطء مقصود، لأنه يمنح المتفرّج وقتًا ليغوص في أعماق الشخصيتين، ويكتشف أنّه أمام امرأةٍ واحدةٍ بشطرين متناقضين يتنازعانها من الداخل، وكأنّها تصارع نفسها لتشفى أو لتعترف أو لتغفر.
العقل يبكي والقلب يصمت
في لحظةٍ لا تتكرّر كثيرًا على المسرح، وقفت مايا يمين تؤدّي مونولوجًا عن الأم الراحلة، التي ماتت بالسرطان.
كان المشهد كالعاصفة، كأنّ كلّ ما سبق من سكونٍ وتمهيدٍ كان إعدادًا لهذه اللحظة التي انفجر فيها الصدق دفعةً واحدة.
مايا لم تكن تمثّل، كانت تعيش. لم تكن تبكي دورها، بل تبكي أمّها التي فقدتها في الحياة.
كانت تتكلّم بصوتٍ يرتجف بين الحنين والقهر، كمن يحفر في ذاكرته قبرًا بالكلمات.
انهمرت دموعها على الخشبة كالشلال، دموع حقيقية لا تعرف التزييف، دموع خرجت من عمق الروح لا من الجفون، حتى بدا المسرح كأنه يغتسل بها، وكأنّ الضوء نفسه توقّف احترامًا لتلك اللحظة الطاهرة.
الجمهور صمت أولًا، لم يجرؤ أحد أن يصفّق كي لا يقطع النَفَس الذي ملأ القاعة، ثمّ فجأة دوّى التصفيق، طويلًا، حارًا، صادقًا.
كان التصفيق هنا ليس تصفيقًا لممثلة، بل لامرأة واجهت موت أمّها مرّة ثانية على المسرح كي تلد الحياة من جديد.
ذلك المونولوج كان قلب العرض، لحظة ولادة حقيقية للفنّ في حضرة الفقد.
في تلك الدقائق، تحوّلت الخشبة إلى اعترافٍ روحيّ بين السماء والأرض، وكأنّ المسرح نفسه بكى مع مايا، واعتذر للعالم عن كل ما فقده من صدق.
أداء بياريت قطريب بين الرهافة والسيطرة
أما بياريت قطريب، فكانت حضورًا طاغيًا دون افتعال، ممثلة تعرف متى تصمت أكثر مما تعرف متى تتكلم.
في الأحمر، بدت ككائنٍ بين النار والوردة، ناعمة في المظهر، قاسية في الوجدان.
هي ممثلة من طرازٍ نادر، تملك القدرة على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى مواقف كبرى، نظرة واحدة منها كانت تكفي لتعيد توزيع الضوء على المسرح.
حين تنظر بياريت، تنكسر الجملة أمامها، وحين تبتسم، تشفى اللحظة من تعبها.
أداءها في Rosemary كان متقنًا ومتزنًا، يوازن بين الرقة والسيطرة، وبين الألم والوقار، حتى غدت هي القلب النابض للعرض، قلبًا يعرف متى يحب ومتى يتوقف عن الخفقان.
الإخراج والإضاءة بين التبرير والغموض
من ناحية الإخراج، قدّم شادي الهبر مقاربة واقعية محدودة ركّز فيها على العلاقة الثنائية أكثر من الإطار العام.
إيقاع العمل في بعض المقاطع اتّسم بالرتابة، وكأنّ العرض احتاج إلى تحوّلٍ بصري أو إيقاعيّ يكسر التكرار ويعيد تنشيط الإحساس بالتطور الداخلي.
أما المؤثرات الضوئية، فكانت متقلّبة التبرير، فيها لحظات من الجمال المبرّر وأخرى من الغموض الذي أربك المعنى، لكنها في كلّ الأحوال حافظت على روح العمل وأضفت عليه بُعدًا حسيًا لا يمكن إنكاره.
جمهور يشارك في التأويل
Rosemary ليست مسرحية تُقرأ من منظورٍ واحد، بل عمل يترك الباب مفتوحًا أمام التفسير.
من خلال أحاديث الجمهور بعد العرض، تبيّن أنّ كلّ مشاهد خرج بانطباعٍ مختلف، منهم من رأى في القصة صراعًا داخليًا بين عقلٍ وقلب، ومنهم من ظنّ أنّها حكاية امرأتين حقيقيتين، ومنهم من ربطها بعلاقة الأم والبنت.
وهذا بالضبط ما أراده صنّاع العمل، أن يكون العرض مساحة حوار بين الخشبة والعقل، بين النصّ والتأويل، وأن تبقى النهاية مفتوحة تمامًا كما تبقى الجراح مفتوحة في الذاكرة.
خاتمة
Rosemary ليست مسرحية عادية، هي مواجهة هادئة بين النبض والفكر، بين المنطق والوجدان، بين الأسود الذي يحاول أن يضبط والأحمر الذي يصرّ على أن يعيش.
نصّها متفرّد، وأداء ممثلاتها نادر في صدقه، وإخراجها على الرغم من رتابته يحمل جرأة التجريب.
هي ليست مسرحًا يُصفّق له فقط، بل تجربة تلاحقك بعد أن تنطفئ الأنوار، وتسألك بصوتٍ خافتٍ يخرج من مكانٍ فيك لم تزرْه منذ زمن:
هل أنت من يعيش، أم من يفكّر في كيف يعيش؟
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي