Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

في البدء كان الصوت… وكانت نادين عوّاد – شربل الغاوي

نادين عوّاد

في البدء كان الصوت… وكانت نادين عوّاد – شربل الغاوي

في البدء لم يكن الغناء صوتًا، بل خلقًا آخر للنور.

وكانت نادين عوّاد، الصوت الذي نزل من جهة الروح لا من جهة الحنجرة،

تجسّد تلك اللحظة التي تُولد فيها النغمة من رحم الصمت لا من ضجيج العالم.

ثمّة أصواتٌ تمرّ كالماء على السمع،

وثمّة أصواتٌ تشقّ القلب كما يشقّ البرق السماء،

توقظ فيك شيئًا قديمًا، كأنّك تسمع نفسك للمرة الأولى.

هكذا هو صوتها:

ليس نغمةً تُعزف، بل نداءٌ خفيّ من جهة الطهر،

يذكّرك بأنّ الفنّ ليس صناعةً بل نجاة،

وأنّ الجمال حين يصدق، يُنقذ.

هي لا تغنّي، بل تُبشّر.

تغنّي فتتراجع اللغة إلى ظلّها،

ويقف الصمت بخشوعٍ على أطراف المسرح.

صوتها لا يُدهش، بل يُطهّر،

ولا يُبهِر، بل يُقيم قدّاسًا صغيرًا في القلب.

في زمنٍ تاهت فيه الأغنية بين الضجيج والغرور،

جاءت نادين كأنّها النغمة التي ضاعت من السماء،

فعادت لتذكّر الأرض بما نسيت:

أنّ الفنّ ليس ما نسمعه،

بل ما يهزّ فينا معنى الوجود.

ولعلّ سرّ هذا الصدق الذي يسكن حنجرتها،

يأتي من جذورٍ تربّت على الفنّ لا كترفٍ، بل كقدر.

فهي ابنةُ بيتٍ تعلّم فيه الجمالُ أن يتكلّم،

ورثت من والدٍ فنانٍ ذائقةَ النور قبل الصوت،

فنشأت لا على العزف أو التلحين فقط، بل على الإصغاء إلى ما لا يُقال.

ومن ذلك الإرث الأصيل، أخذت قناعتها العميقة بأنّ الفنّ لا يُورَّث شكلاً، بل يُورَّث صدقًا.

بيروت حين تتكلّم بصوتها

نادين لا تُغنّي عن بيروت، بل تُنطِق بيروت نفسها.

في صوتها رائحةُ الأرصفة المبلّلة بالمطر،

وصدى ضحكاتٍ سقطت يومًا في مقهى صغيرٍ على زاوية شارعٍ نسي اسمه.

حين تُطلّ، تشعر أنّ المدينة تستعيد أنفاسها،

كأنّها تلمح وجهها القديم في مرآة الصوت وتبتسم بخجلٍ نبيل.

فيها ملوحةُ البحر، وحكمةُ الحجر، ودمعةُ الأمهات اللواتي لا يملكن إلّا الصبر.

بيروت في صوتها لا تُروى بالكلمات، بل تُستعاد بالوجدان.

من “أحلى بيوت راس بيروت”… ذاكرة جيلٍ بأكمله

هناك، في تلك الأغنية التي عبرت شاشة الزمن كنسمةٍ على وجه الذاكرة،

رسمت نادين ملامح جيلٍ كاملٍ تربّى على دفءِ صوتها.

كانت تلك النغمة ليست مجرّد موسيقى لمسلسل،

بل مرآةً لعصرٍ عاش بين الحنين والانكسار.

كلّ بيتٍ فيها كان يشبه بيتًا من بيوت طفولتنا،

كلّ كلمةٍ تشبه قلبًا لبنانيًّا ما زال رغم الخيبات يُحبّ الحياة.

وحين كانت تغنّي،

كانت تُعيد ترتيب مشاعرنا كما يُعاد ترتيب أثاث بيتٍ بعد غياب طويل.

تحوّلت الأغنية إلى ذاكرةٍ سمعيّةٍ جامعة،

إلى نشيدٍ خفيفٍ على اللسان، ثقيلٍ في الحنين.

هي لم تُغنِّ مجرّد لحن، بل زمنًا بكامله.

الصوت الذي يشبه الماء

صوت نادين عوّاد لا يُغنّى… بل يسيل.

نقيّ كنبعٍ خرج من صخرٍ دون أن يتعلّم الغشّ.

حين تسمعه، تشعر أنّك تُغتسَل من الداخل،

أنّ شيئًا فيك يعود إلى حالته الأولى، نقياً قبل التلوث.

هي لا ترفع النغمة، بل ترفع المعنى؛

تُقشّر الجمال من زينته لتُبقيه عاريًا في صفائه.

كلّ نفسٍ منها يحمل موسيقى لا تُصاغ،

لأنّها تعرف أن الحقيقة لا تحتاج إلى زخرفة كي تلمع.

فيها براءةٌ تُشبه الضوء حين يلمس الماء،

لا يُثير عاصفة، بل يُنتج قداسة.

حين يصبح الغناء وطنًا

نادين لا ترفع علمًا حين تغنّي، لكنها ترفع وطناً بأكمله في نبرةٍ واحدة.

في صوتها كبرياءُ التراب وكرامةُ الوجع،

وفي حنانها عزاءٌ جماعيٌّ لبلدٍ يتعلّم كلّ يومٍ كيف ينهض.

الوطن عندها ليس شعارًا يُقال، بل حنجرةٌ تنزف حبًّا.

حين تُغنّي، تشعر أنّ الأرض تهدأ قليلاً،

وأنّ السماء تقترب لتُصغي.

هي لا تُنادي باسم لبنان، بل بروحه،

تمنحه من نَفَسها ما يعيد إليه القدرة على التنفّس.

الرهافة حين تصير بطولة

في زمنٍ يحتفي بالضجيج، اختارت نادين الصمت.

وفي زمنٍ يُكافئ الزخرفة، آمنت بالعُري الجميل للنغمة الصادقة.

تُعلّمنا أنّ الهدوء يمكن أن يكون زلزالًا،

وأنّ البساطة حين تتقن نفسها تصبح ترفًا لا يُشترى.

في أدائها خشوعٌ لا يُدرَّب،

وفي حضورها توازنٌ بين التجلّي والتواضع،

كأنّها تعزف على أوتار الهواء نفسه لتخلق لحظة نقاءٍ وسط الخراب.

الصدق كجمالٍ أعلى

نادين تُغنّي كما يتنفّس الوجدان.

كلّ كلمةٍ منها تخرج وقد اغتسلت بالمعاناة،

وكلّ نغمةٍ تتوهّج بصدقٍ يجعل الكلمة تُبصر الله.

هي لا تؤدّي الأغنية بل تعيشها حتى آخر حرفٍ فيها،

وكأنّها تعترف بذنوب العالم ثم تغفرها بالصوت.

جمالها ليس في حلاوة النغمة، بل في حقيقتها،

وحقيقتها أنّها لا تعرف الزيف.

الفنّ حين يعود إلى ضميره

نادين هي البرهان أنّ الفنّ ما زال قادرًا على أن يكون أخلاقيًّا،

أنّ الجمال ليس في الاستعراض، بل في الطهارة.

هي تُعيد للأغنية كرامتها، وللمعنى جلاله.

حين تُطلّ، تُنصت اللغة نفسها إليها احترامًا،

وتنحني البلاغة لتأخذ من وضوحها درسًا في البساطة النقيّة.

هي لا تغنّي لتُعجبك، بل لتُطهّرك.

وفي عالمٍ يفيض بالضوضاء، تبقى نادين النغمة الوحيدة التي يُمكن أن تُصلّي معها.

حين يُصلّي الصوت بدل أن يُغنّي

نادين عوّاد ليست مغنيةً فحسب،

بل كاهنةُ الجمال التي تُقيم طقوس الخشوع على مسرحٍ من ضوء.

صوتها لا يُفسَّر بل يُعاش،

وحين تسكت، يبقى الصدى حيًّا في الهواء كأنّه نفسُ الأرض.

هي تُذكّرنا أنّ الموسيقى ليست لهوًا،

بل شكلٌ آخر من العبادة.

وأنّ الفنّ، حين يُؤدّى بصدق، يتحوّل إلى طريقٍ نحو الغفران.

الخاتمة: حين يبكي الضوء باسمها

نادين عوّاد،

يا نغمةً صافيةً في زمنٍ مختنق،

يا صلاةً تُرفع من بيروت إلى السماء من غير منبر،

يا وجهًا للصوت حين يتطهّر من الزينة ليعود إلى جوهره الأوّل.

حين تسكتين، لا ينتهي الغناء،

بل يبدأ الإصغاء المقدّس.

يبقى ضوءك معلّقًا في الذاكرة،

كأنّ الصمت نفسه تدرّب على الغناء.

صلاةٌ في هيئة نقد،

وترنيمةٌ في هيئة لغة،

كتبتها الحروفُ راكعةً أمام صوتٍ من بيروت،

يُذكّرنا أنّ الجمال لا يُقال… بل يُؤمَن به.

شربل الغاوي

مخرج – صحافي وناقد سينمائي