
راديو ترانزستور… مسرحٌ لا يخجل لا من الجسد ولا من الكلمة! – شربل الغاوي
ثمّة عروضٌ لا تُرى بالعين، بل تُرى بالقلب. «راديو ترانزستور» ليس مسرحًا فحسب، بل استدعاءٌ للذاكرة حين تتكلّم الموجات بلغةٍ تشبه الحنين. هو العرض الذي لا يُعرض، بل يُبثّ في الداخل؛ في مسافةٍ ضيّقةٍ بين أذنٍ تصغي وقلبٍ يتذكّر.
على خشبةٍ تشبه محطةً ضائعة من زمنٍ نسيه العالم، يقف رجلٌ وبجانبه امرأة: هو القادم من جهة العقل، وهي الراحلة في اتجاه الحلم. بين حقيبةٍ معدنية وجريدةٍ مطويّة، وبين راديو أحمر يُصدر أنين الموجة القديمة، ينفتح المشهد كمنجم أسئلة: من يملك الصواب حين تَغدو اللغة هشّة؟ ومن ينجو حين يصير الصمت هو الجواب الوحيد؟
محطة الانتظار
المكان ليس ديكورًا بل ذاكرةٌ من خشبٍ وحديد. مقعدان متقابلان كأنهما زمنان لا يلتقيان، ودرجات خشبية تشبه ذاكرةَ وطنٍ يتذكّر نفسه على عجل. الإضاءة هنا ليست ترفًا بل صوتًا بصريًا، تتحوّل من دفءٍ أصفر إلى برودةٍ زرقاء، كأنها تجرّب حرارة الوجع وحرارة الغياب معًا. لا فائض في المشهد، لأن الفراغ نفسه ناطقٌ بما لا يُقال.
الحوار كرحلة
الحوار في هذا العمل ليس وسيلة بل غاية. قطارٌ لغويّ يمضي من التبرير إلى الارتباك، من وضوح الجملة إلى تكسّرها عند أول عاطفة. اللغة تتقلّب بين صرامة الباحث وعفوية الرسّامة، بين فصحى عقلية وشفوية دامعة. وفي بعض اللحظات، تفيض الحوارات بعباراتٍ نابيةٍ زائدةٍ عن الحاجة تُخرج المشهد من وهجه لتقحمه في الفوضى، لكن حتى هذه الزوائد تترك أثرها كجرحٍ يذكّرنا بأنّ الصدق ليس دائمًا مؤدّبًا.
أدون خوري… ممثلٌ يفكّر بصوتٍ يسمع نفسه
يُمسك أدون خوري بالمسرح كما يمسك الفيلسوف بفكرته: بيدٍ منطقية وقلبٍ يرتجف تحت الطاولة. صوته لا يعلو، لكنه يخترق، ونظرته لا تبحث عن الجمهور، بل عن معنى يبرّر وجودها. في لحظاتٍ كثيرة، يتحوّل الممثل إلى كاتبٍ في الجسد، يشرح بالعقل ثم ينهار بالعاطفة، كأنّ اللغة عنده معركة بين الواجب والرغبة. أداؤه فكرٌ يتنفّس.
يارا زخّور… الجرح الذي يتكلّم
يارا زخّور ليست تؤدّي، بل تعيش. هي الصوت الذي ينكسر ليبني نفسه، والعين التي تروي من دون أن تبكي. في مونولوجها عن الحرب والجسد، تُعيد تعريف الكرامة من جديد: لا كقناعٍ، بل كلغةٍ نازفةٍ لا تستعطف أحدًا. في حضورها يتراجع التمثيل خطوةً، ويتقدّم الصدق بخطوتين. تعرف أنّ الهمس، حين يُقال من الداخل، يذبح بصمت.
الإخراج واللغة البصرية
الإخراج هنا يُشبه رياضةَ الإنصات. انتقالاتٌ ناعمة كأنها أنفاس، توزّع مدروس للفراغ والضوء، واستعمالٌ ذكيّ لرموزٍ صغيرة: راديو، جريدة، حقيبة، كلّها تتحوّل إلى شخوصٍ إضافية تتكلّم من دون صوت. الضوء يكتب النصّ الموازي، والموسيقى ، أو غيابها ، يفتح مساحةً أرحب من أي مؤثر. كل شيء محسوب ليخدم الفكرة: أنّ الإنسان هو المشهد الأجمل حين يُترك عاريًا من الزخرف.
النص والإعداد
النص الأصلي يفيض بتقشّفٍ جميل، والإعداد حافظ على هذا التقشّف وزاده نَفَسًا. هناك بعض التكرار الذي يتسلّل كصدى داخل الصدى، لكنّه لا يفسد الجوهر. النصّ لا يريد أن يروي، بل أن يلمّح، أن يترك المتفرّج متورّطًا في التأويل. هو نصٌّ يربّي الغموض كما يُربّي الفنّان زهرةً في أرضٍ يابسة.
الرأس والقلب
هو وهي ليسا مجرّد رجلٍ وامرأة، بل معركةٌ رمزية بين رأسٍ مفكّر وقلبٍ شاعر. بين تعريفٍ للوجود ورسمٍ له. بين من يكتب الحقيقة ومن يرسمها باللون. ومن هذا التناقض يولد التوازن: لحظةُ فهمٍ نادرة، حين يلتقي الفكر بالحدس ليُصبحا معرفةً واحدة.
القيمة الفنية
«راديو ترانزستور» لا يصرخ لكي يُسمع، بل يهمس ليُصغي إليه. لا يعتمد على الزخارف، بل على الصدق. يذكّرك بأنّ المسرح ليس مبنىً من إضاءةٍ وموسيقى، بل لقاءُ أرواحٍ في ظلال جملة. قوّته في بساطته، وجماله في نقصه، وضعفه ، إن وُجد ، جزءٌ من إنسانيّته. هو مسرح يذكّرنا بأنّ الحكاية، حين تُقال بصدق، لا تحتاج إلى صخبٍ كي تُخلّد.
خلاصة
في نهاية العرض، يبقى المشهد في الأذن أكثر منه في العين. يبقى السؤال: من يسمع من؟ الراديو الذي يبحث عن موجته، أم الإنسان الذي يبحث عن نفسه؟
«راديو ترانزستور» عملٌ لا يمرّ كعرضٍ عابر، بل كصدى طويل، كهمسٍ يذكّرك أن الإصغاء فعلُ حبّ، وأنّ المسرح الحقيقي هو ذاك الذي يجعلك تسمع نفسك وأنت تصغي إلى الآخر.
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي