
كذبة بالصينية… وإذا كان الفن رسالة فلنحرقه ونقفل باب المسرح – شربل الغاوي
ليست هذه المقالة صرخة ضد المسرح، بل تساؤل عن معنى الفن حين يفقد غايته.
مسرحية «كذبة بالصينية» تُقدَّم كعملٍ كوميدي اجتماعي، لكنها تترك المتفرّج في حيرة بين ما يُفترض أن يُضحِكه وما يُفترض أن يُؤلمه.
القصة مأخوذة من فكرةٍ عالمية قديمة تكرّرت في السينما والمسرح، عن عشاءٍ يتحوّل إلى مرآةٍ تُكشف فيها الأسرار والخيانة.
غير أن النسخة اللبنانية جاءت هادئة، مصقولة، أنيقة، لكنها بلا لهبٍ داخلي.
ليس كلّ من شاهدها ضحك. فالكوميديا لم تُصَب بقوّة السخرية، ولا الدراما لامست عمق الوجع.
بقي العرض بين الحدّين: لا هو كوميدي خفيف، ولا هو كوميديا سوداء تُبكِي بابتسامة.
نصّ بلا غضب
النصّ يسير بثقةٍ شكلية لكنه يفتقد حرارة الموقف.
الأحداث متقنة الترتيب، الحوار مضبوط الإيقاع، لكن الانفعال غائب.
حتى لحظة المواجهة الكبرى، التي يُفترض أن تهزّ البناء الدرامي، تمرّ كأنّها تفصيلٌ آخر من تفصيلات النص.
العمل لا يُدين ولا يبرّر، بل يكتفي بالمراقبة.
ينقل الخيانة كأنها حدثٌ يوميّ عابر، ويترك الجمهور أمام مرآةٍ صامتة بلا تعليق.
وهنا تتجلّى المعضلة: حين يصبح المسرح محايدًا أمام القبح، يخسر قدرته على التطهير.
زياد النجار… إخراج متقن يحتاج إلى نار
قدّم المخرج زياد النجار عرضًا متوازنًا ومتماسكًا من حيث الشكل والبناء، محافظًا على وحدة الإيقاع وتوازن الفضاء.
لكنّ الإتقان التقني، مهما بلغ، لا يُغني عن حرارة الإبداع.
كان يمكن للمخرج أن يذهب أبعد في تفجير التناقضات الداخلية للشخصيات، خصوصًا في أداء زينة مكي التي بدت مترددة بين الانفعال والانضباط، وبين النظام المفرط والارتباك الداخلي.
كان على الإخراج أن يعيد صياغة الحركة وأن يخفّف من التكرار الحركي في أدائها، لأن المبالغة في التنظيم أضعفت التوتّر النفسي الذي كان يمكن أن يمنح الشخصية بعدها الحقيقي.
ربما كان ذلك صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. فالمسرح في جوهره مغامرة، لا تمرينًا هندسيًا.
رودريغ سليمان… الحياة داخل الخشبة
يظهر رودريغ سليمان كالعنصر الأكثر حيوية في العرض.
يحمل إيقاع المسرحية بصدقٍ واضح، ويتنقّل بين الصمت والكلمة بثقةٍ تجعل حضوره طاقةً تُنعش النصّ.
لا يصرخ، ولا يستعرض، بل يترك الجسد يتكلّم بلغةٍ لا تحتاج إلى ترجمة.
في أدائه يتجسّد المعنى الحقيقي للحضور المسرحي: ممثل يعيش ما يقول، لا يكرّره.
هو الذي منح النص عمقه الإنساني حين غاب عن النص عمقه الدرامي.
زينة مكي… بين السيطرة والانكسار
أدّت زينة مكي دورها بحرفيةٍ واجتهادٍ واضح، لكنها بدت أحيانًا عالقة في منطقةٍ رمادية لا تحدّد طبيعة الشخصية تمامًا.
هي امرأة تسعى إلى فرض النظام في عالمٍ ينهار حولها، لكنها تفقد توازنها كلّما حاولت الإمساك بالخيوط.
هذا التناقض جميل دراميًا، لكنه لم يُصغ دراميًا بوضوح كافٍ.
زينة تمتلك حضورًا قويًا وذكاءً في الأداء، غير أنّ النص والإخراج معًا لم يمنحاها الفضاء الكافي للتعبير بأقلّ حركةٍ وأكثر عمقًا.
وليد عرقجي وجويل منصور… الحضور الهادئ
وليد عرقجي ممثل متقن، لكن أداؤه ظلّ في إطارٍ واقعيٍّ قريب من التلفزيون أكثر منه من المسرح.
الدقّة موجودة، لكن الحرارة مفقودة.
أما جويل منصور فقدّمت دورها ببساطةٍ محبّبة وصدقٍ واضح، حضورها كان خفيفًا لكنه صادق، كنسمةٍ تمرّ بين الحوارات الثقيلة.
الرسالة التي لم تصل
الخطّ الدرامي للمسرحية يترك الأسئلة مفتوحة:
هل الخيانة خطأ يجب مواجهته أم حقيقة يجب التعايش معها؟
هل أراد النص أن يصدم أم أن يُهادن؟
كلّ الاحتمالات مطروحة، ولا جواب قاطع.
ربما كان الهدف أن يُظهِر هشاشة العلاقات المعاصرة، لكنّ النتيجة كانت مسرحًا أنيقًا في المظهر، خاليًا من الوجع الحقيقي.
خاتمة
«كذبة بالصينية» عمل مصنوع بعناية، لكنه يفتقد الجرح الذي يجعل الفنّ حيًا.
هو عرضٌ متقن المكوّنات، واضح الاتجاه، لكنه ينقصه سؤال يلسع المتفرّج ويوقظه.
كل شيء فيه جميل… إلا الحرقة.
وإذا كان الفن رسالة، فلنحرقه ونقفل باب المسرح.
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي