
برامج الهواة… بين وهج البدايات وتراجع الحاضر
لجنة التحكيم بين البوصلة والاستعراض
منذ مطلع الألفية، غزت برامج الهواة الشاشات العربية لتتحوّل إلى حالة اجتماعية وثقافية جامعة. فجأة، صار المسرح مساحة مفتوحة لأي هاوٍ يمتلك صوتًا أو موهبة، وصار التلفزيون يُقدّم الحلم الكبير على طبقٍ من ذهب: الشهرة بين ليلة وضحاها. هذه البرامج لم تكن مجرّد عروض ترفيهية، بل محطات مفصلية في تاريخ الإعلام العربي، صنعت نجوماً وأطلقت ظواهر جماهيرية امتدت إلى الشارع والمقاهي والبيوت. غير أنّ الزمن تغيّر، وما كان بالأمس ظاهرة صاخبة، صار اليوم عبئًا تلفزيونيًا يبحث عن تبرير لوجوده.
المسرح المفتوح وحلم العابرين
قوّة هذه البرامج انطلقت من بساطتها: شاب أو فتاة، من قرية أو مدينة، يقف على خشبة ضخمة أمام ملايين العيون. لحظة تجمع بين الرهبة والحلم، بين رجفة الخوف وثقة التجربة الأولى. بالنسبة للمشاهدين، كانت التجربة مُدهشة؛ أن يروا أناسًا يشبهونهم يحظون بفرصة العمر. لكنّ هذا البريق كان قصير الأمد. كثيرون اكتشفوا أنّ الخشبة ليست إلا محطة عابرة، وأنّ الاستمرار أصعب بكثير من الوصول.
لجنة التحكيم… بين الأمس واليوم
في البدايات، كانت اللجان أشبه بمدرسةٍ صغيرة: نجوم صفّ أوّل، ملحّنون ومطربون وأصحاب خبرة فنية، يمنح حضورهم البرنامج شرعية ووزنًا. كان المتسابق يشعر أنّه أمام أساتذة، وأنّ كلمة “نعم” شهادة حياة، و”لا” درس لا يُستهان به. لكن مع الوقت تغيّر المبدأ؛ صار بعض أعضاء اللجان يبحثون عن نجومية شخصية أكثر من بحثهم عن موهبة، وأصبحت الكاميرا تتعقّب ردود أفعالهم أكثر من أصوات المتنافسين. هكذا تحوّل مقعد التحكيم من منصة تقييم إلى مقعد استعراض، وغابت عنه الجدية التي صنعت هيبته يومًا.
النقد الغائب والاستعراض الحاضر
التحكيم الحقيقي يفترض لغةً تحليلية: قراءة للأداء، ملاحظات تقنية، واقتراحات تطوير. غير أنّ ما نشهده كثيرًا هو خطاب مبالغات أو قسوة علنية. يُرفع الهاوي إلى مصاف النجم الجاهز في لحظة، ثم يُترك لمصيره حين يكتشف أن الوعود أكبر من الواقع. أو يُسقَط علنًا بكلمة جارحة قد تكسر ثقته بنفسه قبل أن تكتمل تجربته. وبين هذا وذاك، ضاع النقد البنّاء وحلّ مكانه خطاب انفعالي يُغذّي المشهدية أكثر مما يخدم الموهبة.
الاستمرارية المفقودة بعد انتهاء الأضواء
المشكلة لم تكن يومًا في لحظة التتويج، بل فيما بعدها. البرامج لم تُنشئ مسارًا حقيقيًا للرابحين: لا خطط إنتاجية واضحة، لا إدارة فنية تتابعهم، ولا برامج تدريب تحمي موهبتهم من التبدّد. الجوائز غالبًا شكلية، والعقود قصيرة العمر، والنجومية تنتهي مع الحلقة الأخيرة. تحوّلت الأسماء إلى عناوين سريعة، وتركت خلفها فراغًا كبيرًا. إنّها مشاريع آنية تستهلك الموهبة بدلاً من أن تصنعها.
الجمهور… بين المشاركة والوهم
أُعطي الجمهور دور الحَكم الموازي عبر التصويت، فبدا القرار ديمقراطيًا ومفتوحًا للجميع. في حالات كثيرة أنصف المشاهدون أصواتًا تجاهلتها اللجنة، لكنّ التصويت لم يكن دومًا بريئًا؛ خضع للعاطفة، للمناطقية، ولحسابات لا علاقة لها بالفن. وبذلك لم يعد القرار دائمًا مقياسًا للموهبة، بل انعكاسًا لانقسامات المجتمع نفسه.
زمن ذهبي وواقع مختلف
كان لهذه البرامج زمنها الذهبي: صارت منصّات جامعة وحديث الناس كل أسبوع، وبعض النجوم الذين خرجوا منها استطاعوا، بجهد شخصي، أن يبنوا مسيرات راسخة. غير أنّ التحوّلات الرقمية غيّرت كل شيء. اليوم يكفي مقطع قصير على “تيك توك” أو “يوتيوب” ليصل صوت جديد إلى ملايين المشاهدين من دون لجنة ولا عقد. لم تعد الصيغ القديمة قادرة على منافسة إيقاع العصر، وبات التلفزيون يلهث خلف جمهور هجَرَه إلى المنصّات الأخف والأسرع.
خاتمة
لقد جمعت برامج الهواة العرب يومًا حول الحلم المشترك: أن يجد الصوت العادي طريقه إلى النجومية. لكنّ الخلل الذي أصاب لجان التحكيم، وغياب النقد البنّاء، وتراجع فكرة الاستمرارية، جعلها اليوم صدى باهتًا لماضيها المضيء. فبدل أن تكون مصنعًا للأصوات، تحوّلت في معظم الأحيان إلى لعبة استعراض. ولعلّ السؤال الأهم اليوم ليس عن أي موهبة ستفوز، بل عن جدوى الصيغة نفسها: هل بقي لها مكان في زمنٍ صار فيه الاكتشاف يحدث بضغطة شاشة، والموهبة تُقاس بصدقها وانتشارها، لا بكرسي لجنة تحكيم؟
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي