
جاد أبو علي – «Reel ع ورق»
حين تُصبح الجملةُ مرآةً للعصر، ويصيرُ القلبُ وسيلةَ تفاعلٍ واعتراف
الكتاب الذي كتب الموجُ مقدمته
ليس صدفةً أن يفتتح الكاتب رحلته على رصيف البحر. هناك، حيث الكلمات لا تُكتب بل تُغنّى على إيقاع الموج، يبدأ النصّ وكأنه مشهد سينمائي يلتقي فيه الأدب بالصورة، والهدوءُ بالصخب، والعزلةُ بضجيج المدينة.
«بيروت، منتصف الليل، على رصيف البحر» ليست جملة افتتاحيّة فحسب، بل هي إعلانُ هويّة: هذه الكتابة وُلدت بين العاطفة والاختناق، بين الضوء المعلّق على عمودٍ والظلّ الممتدّ على روح. الكتاب إذًا ليس تجميع خواطر، بل لوحة ضوئيّة يرسمها قلمٌ يعرف أنّ الموجة قد تكتب أكثر مما يكتبه الحبر.
من السوشال ميديا إلى الأدب… رحلة القلب من الشاشة إلى الورق
جاد أبو علي لم يهرب من واقع الشاشة؛ بل حوّله إلى شكلٍ أدبيّ جديد. أدرك أن اللغة تغيّرت، وأن التعبير لم يعد بحاجة إلى روايةٍ طويلة كي يترك أثرًا، بل إلى جملةٍ تمتلك صدق لحظةٍ واحدة.
أزرار التفاعل .. القلب، والسهم، والراية .. صارت في «Reel ع ورق» علامات بلاغية. القلب هو النبض الأول للكلمة؛ السهم هو السؤال الموجَّه إلى العالم: هل تشبهكم هذه الجملة؟ والراية وعدٌ ضمنيّ مع الذات بأن نعود يومًا لقراءة ما نحبّ، لأننا لا نحتفظ إلا بما يُؤلم أو يُدهش.
هذه الرموز التي كانت مجرّد أدواتٍ باردة في العالم الرقمي، استعادها الكاتب إلى حرارة الورق، فحوّلها إلى استعاراتٍ إنسانية: صرنا نقرأ بالشعور لا بالعين، ونتفاعل بصدقٍ لا بزرّ.
بلاغة الاختزال… حين يُختصر الكون في نصف سطر
في زمنٍ تتناسل فيه الكلمات حتى تفقد معناها، يختار جاد الاقتصاد اللغوي سلاحًا للجمال.
كلّ جملة في «Reel ع ورق» تشبه رصاصة وعي، أو ومضة برقٍ توقظ الفكرة ثم تتركها تتردّد في الصمت.
يكتب مثلاً: «الدمعة تقيل للدرجة اللي بتخاف تقع من عينك وتكسر شي بالغلط»؛ هذه الجملة وحدها تختصر فلسفة إنسانيّة كاملة: الحساسية التي تحمي القسوة من نفسها، والعاطفة التي تخاف من شدّتها.
يستخدم الكاتب التكرار ليصنع إيقاعًا لا مللًا، مثل مقطع موسيقيّ قصير يُعيد نفسه لأنّ الصدى جزءٌ من المعنى. وهكذا تصبح الكتابة عنده نَفَسًا شعريًّا موزونًا بالصدق لا بالعَروض.
بين سرعة الريل وبطء القمر
العالم يمشي على سرعة الضغط، والكاتب يصرّ على أن يبطّئ الخطى. يذكّرنا أن الجمال لا يركض، وأنّ المعنى الحقيقي يحتاج وقتًا كي ينضج.
يكتب عن الوقت كأنه صديقٌ صعب: «يا ما ناس عطوك وقتهم، بس ما عطوك اهتمامهم». في هذه الجملة يقلب مفهوم العطاء، فيحوّل الوقت من كميّة إلى قيمة، ومن حضورٍ إلى مشاركة.
القمر في نصوصه ليس استعارةً للحنين فقط، بل رمزٌ للبطء الجميل؛ فكل ما يتأخّر كي يكتمل، يستحق الانتظار.
أدبُ الوجدان… حين تُصبح الأخلاق شعورًا لا خطابًا
في نصوصه لا نجد نبرة الواعظ، بل نَفَس المصلح الهادئ. يتحدّث عن الغدر بوصفه مرضًا لا خيانة، وعن الوفاء كحقيقةٍ نادرةٍ لا تحتاج إلى بطولةٍ لتثبت نفسها.
يكتب: «ما كلّ الناس غلط، بس أوقات بتشتاق للأشياء الحلوة بغير الناس الغلط».
في هذه العبارة تتجسّد فلسفة الكاتب: أن الحنين لا يُبرّئ أحدًا، لكنه يعذر الجميع. وأن الطيبة ليست ضعفًا، بل ذاكرةٌ تحتفظ بنورها حتى بعد أن تنكسر.
السخرية الراقية… الضحكة التي تجرح بلطف
لا يخاف جاد من مواجهة التناقض. يسخر من المجتمعات التي تضع الأخلاق في العناوين وتسرقها في التفاصيل، من الرجولة التي تحتاج واسطة، من النجاح الذي يُقاس بعدد المتابعين.
لكن سخريته ليست هجاءً، بل تشريح. يضحك ليُظهر المرض، لا ليهين المريض. يكتب بابتسامةٍ مُتعِبة، كأنّه يقول: أنا أراك، لكنّي لا أريد أن أفضحك، أريد فقط أن أوقظك.
لغة المدينة… بين زحمة الحروف وضجيج البشر
الفصحى عنده لا تتبرّأ من العاميّة، والعاميّة لا تطيح بالفصحى. هما يلتقيان في منتصف الجملة، مثل عصفورين هبطا على الحافة نفسها.
لغته تشبه بيروت: تتكلّم بجلال، وتضحك بخفّة.
فيها سطورٌ تشبه الحمراء عند الغروب، وأخرى تشبه زقاقًا في الأشرفيّة أو مقهى في مار مخايل.
المدينة حاضرة في كل صفحة، ليس كجغرافيا بل كذاكرة، كوجهٍ يعرف التعب ويصرّ على أن يبدو جميلًا.
الغياب بوصفه وجهًا آخر للحضور
من «الماي فراق» إلى «شِباك الطيّارة»، يكتب الكاتب عن الفقد بصدقٍ هادئ. الغياب عنده ليس مأساة، بل مساحةٌ للتذكّر.
يقول: «قال الماي فراق… طيب ورفقاتك شو؟ اللي بيحكوا عني أخبار وأنا ما بعرفا، هودي مش فراق؟».
هذه البساطة تحمل عمقًا قاسيًا: أنّ الفراق ليس فقط البعد، بل أحيانًا الحضور المزيّف. وأن أقسى ما يفعله الزمن ليس أن يسرقنا من الآخرين، بل أن يتركهم قريبين منّا ببرودٍ لا يُشفى منه.
البحر الذي يكتب… والمدينة التي تنصت
في خلفيّة كل نصّ رصيفٌ وبحر. جاد أبو علي لا يكتب من مكتبٍ مغلق، بل من فضاءٍ مفتوح على احتمالات الوجع والجمال.
البحر في نصوصه ليس منظرًا بل ذاكرة؛ هو الورقة الأكبر التي يضع عليها الكاتب كلماته، والمرآة التي يرى فيها انعكاس الناس كما هم: عابرون، تائهون، محمّلون بالقصص.
بيروت هنا ليست خلفيّة جغرافية، بل بطلة خفيّة. هي التي تنزف بين السطور، وتبتسم حين يكتب.
جاد أبو علي – «Reel ع ورق»
في زمن السطح، يذكّرنا أن المعنى لم يمت بعد، بل اختبأ تحت طبقة السرعة. وأنّ الأدب، مهما تبدّلت وسائطه، لا يفقد قيمته ما دام الإنسان موجودًا.
جاد أبو علي لم يكتب لينافس المنصّات، بل ليصالحها مع الكلمة. أعاد الإنسانية إلى “اللايك”، وجعل “المنشور” مرآةً تُصلح ما كسرته السرعة فينا.
خلاصة النهار الطويل
في النهاية، «Reel ع ورق» ليس كتاب خواطر، بل موقف ثقافي كامل. هو محاولة لتأسيس أدبٍ جديدٍ يولد من رحم التفاعل، أدبٍ يعرف كيف يُمسك بعصب اللحظة من دون أن يذوب فيها.
هو كتابٌ يُعيد للأدب معناه الأصيل: أن يكون بيتًا للروح، ومكانًا للدهشة، وسردًا للإنسان في زمنٍ صار يكتب كثيرًا، لكنّه نادرًا ما يقول شيئًا.
الختام
من بيروت إلى البحر، من القلب الأحمر إلى الورقة البيضاء، ومن السطر القصير إلى المعنى الطويل، يسافر جاد أبو علي بجملٍ تشبه ومضات الحقيقة في عصرٍ يحبّ الزيف الجميل.
جاد أبو علي – «Reel ع ورق» ليس مجرّد كتاب، بل بيانٌ أدبيّ عن عصرٍ كامل.
إنّه دعوة لأن نبطّئ خطواتنا، أن نقرأ بعيونٍ أقلّ تسرّعًا، وأن نعيد للكلمات احترامها، وللقلب مهمّته القديمة: أن يشعر قبل أن يضغط.
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي
