Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

مسرحية «قبل آخر صفحة»… كاتبٌ يقتل الحلم لينجو من ذاته – شربل الغاوي

مسرحية قبل آخر صفحة

مسرحية «قبل آخر صفحة»… كاتبٌ يقتل الحلم لينجو من ذاته – شربل الغاوي

ليست «قبل آخر صفحة» عرضًا يُقصَد للتسلية أو لتمضية المساء، بل مواجهة وجهاً لوجه مع الذات حين تُطرَح على الطاولة بلا تبرير.

نصّ جورج درويش، إخراج مازن سعد الدين، وتمثيل مي سحّاب ورالف س. معتوق، يصنعون تجربةً تُمسك المتفرّج من ياقة القلب وتضعه في أضيق نقطةٍ بين الندم والرغبة، بين وصاية الماضي وشهقة الحاضر، على مسافة نفسٍ واحد قبل آخر صفحة.

ذاكرة تُمسك برقبة الحاضر

حلمي عبد الساتر كاتبٌ عالقٌ في مصيدة ذاكرته. لا يملك من المستقبل سوى ظلالٍ بعيدة، ولا من الحاضر سوى قفصٍ يلمع من الخارج ويصدأ من الداخل.

أمّ تضغط باسم الزواج وبيتٌ يطالب بصورةٍ اجتماعية مكتملة، وأبٌ غائب على الدوام في الشغل يورّثه فراغَ السلطة ومرارةَ التوقّع.

يكتب حلمي لينجو، فيكتشف أنّ الكتابة نفسها هي الفخ. كل جملةٍ حبل، وكل استعارةٍ عقدة. ثلاث روايات وراءه، وصفحةٌ يتيمة تفصله عن الرابعة، صفحةٌ لا يريد أن يكتبها لأنّها ستُجبره على وضع نقطةٍ في مكانٍ لا يزال يُفضّل فيه علامات الحذف.

شكبازوف… مرآة النور والظلال

تدخل مي سحّاب عبر شخصية شكبازوف لا بوصفها حبيبة أو خلاصًا تقليديًا، بل كاختبارٍ لقدرة الرجل على احتمال الضوء.

هي الشرارة التي تضع حلمي في مواجهة مرآته، تنزع عنه أقنعته برفقٍ قاسٍ، وتحرّض فيه رغبة النجاة التي يخشاها أكثر ممّا يتمنّاها.

أداؤها يبني شخصيةً تنوسُ بين حضنٍ يطمئن وصفعةٍ توقظ. صوتها بارد الحافة، نظرتها حادّة كحدّ السكين، وإيقاعها الداخليّ يحرّك المشاهد كمن يوقظ ماءً راكدًا تحت السطح.

كلّ اقترابٍ منها يفتح نافذة، وكلّ ابتعادٍ عنها يغلق بابًا في وجه حلمي. وحين يقتلها، لا يقتل امرأة، بل يجهز على فكرة التغيير نفسها، يخنق الأوكسيجين الذي دخل رئتَي حياته للتوّ.

حلمي… الكاتب الذي يملك اللغة وتفتك به الجملة

يقدّم رالف س. معتوق «حلمي» على هيئة رجلٍ سقط نصفه من الهاوية وبقي نصفه متشبثًا بحافة الكلمات.

يضبط انكسارات النفس على مِترونومٍ دقيق: كتفٌ يهبط عند الجملة الحرِجة، يدٌ تبحث عن دعمٍ لا تجده، عينان تتجنّبان الحقيقة ثم ترتطمان بها.

في مونولوجه بعد القتل، يخرج الاعتراف كما لو أنّه شقّ في طبقة الصوت: «أنا قويّ… لكن ضعيف الشخصية». لا يقولها كمعلومة، بل كجرحٍ مفتوح.

هنا يصل الأداء إلى قمّته، حيث تتعرّى الفكرة من زينتها وتبقى البشريّة المكسورة، المربوطة بأمٍّ سلطوية ووصايا عتيقة، والمطعونة بأبٍ تعلّم الغياب حتى صار عادة.

إخراجٌ يرسم الصمت كما يرسم الضوء

مازن سعد الدين يبني العرض كمعادلة هندسية دقيقة: صمتٌ محسوب، ضوءٌ موجّه، وإيقاعٌ يتمنّع عن الاستسهال.

يترك للنصّ أن يتنفّس، وللجملة أن تتأخر نصف ثانية كي تصيب موضعها. يمرّر إشاراتٍ مبطّنة إلى الثورات باعتبارها استعارةً عن تمرّد الداخل لا بيانًا سياسيًا.

ومع ذلك، يطلّ مأخذٌ لا يُخفِي قيمته: حشوٌ موضوعيّ يتسلّل على شكل نكاتٍ صغيرة ومقاطع جانبية ذات طابع سياسيّ متشعّب. هذه الانعطافات، وإن أراحت المتلقّي لحظةً، تُشتّت محور السهم.

الجرأة هنا لا تحتاج كثرة الذخيرة، بل دقّة التصويب. كلّ إضافةٍ لا تخدم جذر الحكاية تُضعف شرايينها.

المتاهة… مسرحٌ من هندسة العقل

الديكور ليس خلفية، بل نصٌّ ثانٍ.

الفضاء مُشيّد بوصفه متاهة هندسية، مستوياتٌ متدرّجة تُحاصر المركز، تتوسّطها كتلةٌ حمراء تتوهّج من الداخل كقلبٍ تحت مصباح تشريح، وفوقها صندوقٌ يذكّر بصندوق ذاكرةٍ يصرّ على البقاء مفتوحًا.

كاميرا علوية تلتقط المشهد من منظورٍ عمودي وتُسقطه على شاشةٍ خلفية، فنصير داخل رأس حلمي نرى الدوائر التي يدور فيها، ونراقب الحدث كما تراقبه عينُ الدماغ، من فوق ببرودٍ يضاعف القسوة.

حين يحلّ الموت، لا نراه كواقعة أمامنا، بل كصورةٍ تُلتقط من السقف، كأنّ النهاية قرارٌ كتبه العقل قبل أن تلحق به اليد.

الألوان موظّفة بعناية: الأحمر في القلب والمنصّة دلالة احتراقٍ داخليّ ودمٍ لا يُسفك على الخشبة بل في الجملة، الأصفر في الأزياء نبرة تنبيهٍ عقلية تُقابل اندفاعةَ الحُمرة، والأسود يغلّف كلّ شيء كحارسٍ صامتٍ للهاوية.

توزيع الإضاءة يحصر البصر في المركز ويترك الأطراف في شبه عتمة، فيتجسّد السؤال بصريًا: هل من منفذٍ خارج هذه الدائرة؟

هذا الفضاء لا يزيّن الحدث بل يحاكمه. المتاهة ليست مكانًا يجري فيه الفعل، بل جهاز قياسٍ للوعي. كلّ خطوةٍ للحوار تُحرّك مستوى بصريًا، وكلّ اهتزازٍ في داخل حلمي يوقظ ظلّاً على الجدران.

هكذا تصبح السينوغرافيا آلةَ كشفٍ تُسقط الزوائد وتترك العظم: إنسانٌ محاصرٌ داخل شكلٍ هندسيّ صنعه بنفسه.

ثورات الداخل… حين يختنق التغيير بنفسه

النصّ يمرّر إشاراتٍ إلى انتفاضاتٍ عديدة، لا بوصفها حدثًا بل كتشظّياتٍ لفكرةٍ واحدة: التمرّد على النسخة القديمة من الذات.

ينجح هذا حين يلتصق بجذر الصراع، حلمي والثمن المؤجَّل لعلاقته بأمّه، ويتعثر حين تتكاثر العناوين وتتزاحم النكات.

الثورة الأقوى هنا ليست التي تُهتف، بل التي تُمارَس. أن يختار البطل الحياة على حساب الولاء للماضي. ولأنّه لا يفعل، يكتب نهايته بيده.

تحت رماد المعنى… يشتعل المسرح من الداخل

«قبل آخر صفحة» عملٌ جريء المبدأ، محكَم الأداء، ثريّ السينوغرافيا.

قوّته أنّه يضع صراعًا إنسانيًا عميقًا على خشبةٍ لا تتكلّف، ويستخرج من ممثلَين طاقةَ صدقٍ عالية.

مأخذه أنّه يسمح أحيانًا لفراغاتٍ جانبية أن تُزاحم مركز الثقل: نكاتٌ تُطفئ جمر التوتّر حين كان يكفي أن تُذكّيه، وتوسّعاتٌ سياسية تُضيّع سهم المعنى لحظاتٍ قليلة.

الدواء ليس أصعب من الداء: تشذيب لا يجرح الروح، واقتصادٌ في الحوار يترك المعنى يتكفّل بالباقي، وضبطٌ أدقّ للانتقالات النبرية بين الهزل والوجع.

حينها، سيضرب العرض ضربته الكاملة: جملةٌ تصيب العظم، وصمتٌ يقول كلّ ما لا يقال.

الممثلان… وجهان للانفجار الداخلي

مي سحّاب: أنوثة الصراع وذكاء الصدمة

تشتغل على مفهوم «الاقتراب الخطِر». كلّ خطوةٍ نحو حلمي تحمل وعدًا وتهديدًا معًا. تضبط إيقاع الجملة كمن يراقب نبضًا على جهازٍ حسّاس.

تطلق السخرية كمسكّنٍ بجرعاتٍ محسوبة، وتعود إلى الحِدّة كطبيبةٍ تعرف أنّ الشقّ ضرورة للنجاة.

حضورها يمكث في الفضاء حتى بعد الصمت، وهذا هو تعريف الكاريزما على الخشبة.

رالف س. معتوق: هشاشة القوّة وصدق الانكسار

يؤدي الرجل الذي تتفوّق قدرته على التخييل على قدرته على العيش. يتكلم كمن يعتذر، ويعتذر كمن يتوعّد نفسه.

في المونولوج الأخير، يبلغ النقطة الحرجة: ينفضُ زينة اللغة عن كتفيه ويترك الإنسان يواجه إنسانه.

مشهدٌ يُقاس عليه، لأنّه يذكّرنا أنّ الصدق وحده يُلغي التمثيل.

خاتمة… حين تنطفئ الأضواء وتبقى الحقيقة مضاءة

هذا عرضٌ لا يبيع الوهم.

يريك المفصل حيث ينكسر، ويضعك في المتاهة ويترك لك خرائط الخروج، ثم يهمس: «لن تنجو ما لم تُسمِّ خوفك».

«قبل آخر صفحة» ليس نصًا يُقرأ، بل اختبار تحمّل. إلى أيّ حدّ يمكن للكلمة أن تُبقيك على قيد الحياة قبل أن تصبح، هي نفسها، أداة القتل؟

حين ينطفئ الضوء، لا يصفّق المتفرّج لأنّه انبسط، بل لأنّ الحقيقة مرّت وتركَت أثرها.

وهذا، في زمنٍ يفضّل اللمعان على الوجع، فنّ يكسر الأرض ليُرينا ما تحتها.

شربل الغاوي

مخرج – صحافي وناقد سينمائي