Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

تلما عدس… حين يتحوّل الفنّ إلى تنفّسٍ آخر – شربل الغاوي

تلما عدس

تلما عدس… حين يتحوّل الفنّ إلى تنفّسٍ آخر – شربل الغاوي

في زمنٍ تتكاثر فيه العروض وتقلّ التجارب الصادقة، تظهر تلما عدس كأنّها البرهان الهادئ على أنّ الفنّ لا يُقاس بعلوّ الصوت ولا بسطوة الأضواء، بل بقدرة الجسد والروح على أن يصيرا معنى. حضورها لا يطلب الطريق، بل يفتحه: تدخل إلى الخشبة فيتبدّل إيقاع المكان، ويتهذّب الهواء، وتقترب العيون من نفسها قبل أن تقترب منها. ليست عابرةً في مشهدٍ عابر، بل حالةٌ جماليّة تتقدّم بثقةٍ منخفضة النبرة، تترك ما يبقى وتسامح ما يزول.

هي ابنةُ الموازنة الدقيقة بين الانضباط والشرارة: تضع الإحساس على محكّ التقنية، وتضع التقنية في خدمة الإحساس. وحين تبدأ، تشعر أنّ كل ما حولك يتّفق على الصمت كي يُنصت؛ فالفنّ لديها ليس أداءً يُستهلك، بل نَفَسٌ يُقتسَم.

تلما عدس

الرقص… حين يتكلّم الجسد بلغةٍ لا تُترجَم

الرقص عند تلما عدس ليس سلسلة حركاتٍ مُتقَنة فحسب، بل فكرٌ يكتب نفسه بأطرافٍ واعية. تعرف كيف تُثقّف الإيماءة حتى تُصبح حجّة، وكيف تُهذّب الانفعال حتى يُصبح قانونًا. كل التفاتةٍ تُشيّد ميزانًا داخليًّا بين الباطن والظاهر؛ كل انحناءةٍ نحتٌ للهواء على مقاس الروح. لا تتبع الموسيقى، بل تُفاوضها: تُبطئ حين يسرف اللحن في العجلة، وتُسرّع حين يستغرق في التأمّل، كأنّها تُذكّر الصوت أنّ الجسد شريكٌ لا تابع.

في رقصها تتجاور النبرة والسكوت: خطوةٌ بطيئة تُمهّد لاندفاعةٍ خاطفة، ووقفةٌ على الحافّة تسبق قفزةً محسوبة. تُشغّل ذاكرة الجسد بلا ارتجالٍ مُنفلت، وتمنح الارتجال حقّه بلا استعراض. لذلك يبدو زمن العرض عندها معلّقًا على مشجب الدهشة: تمتدّ اللحظة فتتّسع للرواية، ثمّ تنكمش فتترك أثرها الخالص في العين والقلب.

“Dance is the soul translating itself into motion.”

تلما عدس

التدريب… شغفٌ يُترجِم نفسه تعليمًا

التعليم عندها ليس نقل خطواتٍ ولا استنساخ قوالب؛ إنّه خلاصٌ تدريجيّ من العجز. تدخل القاعة كمن يدخل ورشة ترميمٍ للنَفَس: تُعيد ترتيب علاقة الإنسان بجسده، وتُصالح الخجل مع الجرأة، وتُقنع الطالب أنّ الانضباط هو الطريق الأقصر إلى الحرّية. تُدرِّب على أخلاق الحركة قبل تفاصيلها: الاقتصاد لا البَذخ، الصبر لا القفز، الدقّة التي تُنقّي لا الدقّة التي تُجمِّد.

تعرف أنّ الجسد يخون صاحبه حين يخاف؛ لذلك تُربي الثقة بالجرعات: تكلّم العضلة لغةً عضلية، وتكلّم القلب لغةً إنسانية، وتعلّم العين أن ترى نفسها بصدقٍ لا بعنف. تُخطئ المجموعةُ معها بكرامةٍ، وتُصيب بطمأنينةٍ، لأنّها تُحوّل الخطأ إلى معلّمٍ إضافيّ. وفي نهاية الدرس، لا يخرج الطالب بترتيبٍ جديد للخطوات وحسب، بل بهويّةٍ حركيّةٍ تبذل المعنى قبل البهرجة.

“To teach art is to remind others they can speak without words.”

تلما عدس

التمثيل التعبيري… الصمت حين يصرخ

حين تمثّل بجسدها، يتراكم القول في المسافة بين نبضتين. لا تحتاج إلى جملةٍ واحدة لكي تُتمّ الحكاية؛ عينٌ تقترح، كتفٌ يشهد، ووقفةٌ تُصادق. تمثيلها التعبيريّ لا يُزخرف الرقص بل يؤسّسه: تُمسك الخيط العاطفيّ من طرفه الأشدّ حساسيّة، فتسير به من الهمس إلى الذروة من دون أن تفقده. تتعامل مع الصمت كآلةٍ كاملة الطبقات: تُشغّله، تُخرجه من حياده، وتعيده إلى المتلقي نبضًا موزونًا.

لا ترتدي الحالة من الخارج، بل تدخلها من أعمق أبوابها: تتقمّص لا لتُثبت مهارةً، بل لتختبر إنسانيّةً. لذلك تتحرّك الحدود بين الرقص والتمثيل في أدائها كأنّهما ماءٌ واحد في إناءين؛ تتبدّل الأشكال ويبقى الجوهر واحدًا: حكايةٌ محسوسة تُكتب بلا حبر، وتُقرأ بلا وسيط.

“When words fail, the body becomes the story.”

تلما عدس

الصوت… خامةٌ تحمل ذاكرة الأرض

صوت تلما عدس ميزو دافئ، لكنّ تعريفه الأصدق أنّه خامةٌ ذات حُبَيبَةٍ إنسانيّة؛ فيه بُحّةٌ كالرمل بعد المطر، ونداوةٌ تُخفّف حدّة الحوافّ. لا يُسرف في العلوّ بحثًا عن الإبهار، ولا يتقشّف في الخفوت هربًا من المخاطرة؛ إنّه يختار الطريقة التي يخدم بها المعنى. تُعيد في الغناء ترتيب العلاقة بين المقام والإحساس: المقامُ إطارٌ رحب، أمّا الإحساسُ فلوحةٌ تُجيد توزيع الضوء.

تُصادق الذاكرة من غير تحنيط، وتصافح الحداثة بلا ذوبان. تمتلك تلك الوقفات القصيرة التي تُشبه شهقةً صغيرة قبل تمام القول، فتسمح للنغمة أن تتنفّس، وتسمح للمستمع أن يُصغي لما بين النغمات. إنّه صوتٌ يروي دون ادّعاء، ويُصدّق نفسه قبل أن يطلب التصديق من الآخرين.

“A true voice carries both the past and the promise.”

تلما عدس

الفنّ الكلّي… التقاء الجسد بالصوت

لا تفصل تلما عدس بين الفنون كما لا يفصل النَفَس بين شهيقٍ وزفير. حين تغنّي، يتولّى الجسد شرح الجملة؛ وحين ترقص، يتسرّب اللحن من ملامحها كأنّه تعليقٌ عاطفيّ على الحركة. هذا التساند ليس تزيينًا بل منهج: كلّ حركةٍ علّةٌ لنغمة، وكلّ نغمةٍ مسوّغٌ لحركة. لذلك تظهر عروضها مثل لوحاتٍ حيّة: طبقاتٌ تتعانق من غير تزاحم، وتفاصيلُ تُصغي لبعضها بدل أن تتنافس.

سرّ الإقناع هنا أنّ العقل حاضرٌ من دون صرامةٍ جافّة، والعاطفةُ ساريةٌ من غير سيلان. لا زيادة تُثقل ولا نقصٌ يُفقر: ميزانٌ دقيق بين الانسياب والحدّة، بين حرارة التعبير وبرودة البناء. بهذا المعنى، يبدو فنّها درسًا في كيفيّة تحويل التعدّد إلى وحدةٍ مضيئة.

“Harmony begins when body and voice breathe together.”

تلما عدس

تأكل المسرح… حين يُصبح الحضور لغة

يُقال إنّها «تأكل المسرح»، وهذه العبارة، رغم مجازيّتها، تصف واقعةً محسوسة: تمتلك سلطةً هادئة على الفضاء. لا تبتلع الضوء لتحتكره، بل تُعيد توزيعه بحيث يصير شريكًا في الدلالة. تتعامل مع المسافة كآلةِ توقيت: تُقرّبها حين تحتاج العين إلى الهمس، وتُباعدها حين يحتاج القلب إلى المشهد عاريًا من المساحيق.

توزّع الطاقة على الزوايا كما يوزّع قائد الأوركسترا النبض على الآلات: نظرةٌ تُعيد تمركز الانتباه، التفاتةٌ تُصحّح زاوية الرؤية، وسكونٌ يُبطل صخب اللقطة بجرعة صمتٍ محسوب. لا تؤدّي الدور… بل تُقيم فيه؛ تجعل من الخشبة امتدادًا لجسدها، ومن جسدها امتدادًا لعين المتفرّج. عندها يفقد المكان صلابته المؤقّتة ويستعيد كينونته الحيّة: مسرحٌ يتنفّس.

“She doesn’t perform on stage—she becomes it.”

تلما عدس

البيت والعائلة… الوتر الخفيّ خلف الإيقاع

خلف الصعود الهادئ خيطُ دفءٍ لا يظهر في الكادر: البيت. العائلة عندها ليست تفاصيل سيرةٍ تُورَد، بل نظام أمانٍ عاطفيّ يُضبط به الميزان. هناك تُرمَّم الشروخ الصغيرة التي يصنعها الجهد، وهناك يُربّى الصمتُ الذي تحتاجه الفكرة قبل أن تولد. البيتُ ليس نقيض المسرح، بل شرطه الأخلاقيّ: أن يبقى الإنسان إنسانًا حين تُسرف الأضواء في الإغراء.

بهذا السند غير المرئيّ، تُفلح في إبقاء الفنّ قريبًا من علّته الأولى: أن يُعاش قبل أن يُعرَض. ومن هذا الركن الدافئ تخرج إلى العلن بلا قسوةٍ ولا هشاشة، بإحساسٍ متّزنٍ لا يتقدّم خطوةً على حساب خطوةٍ أخرى.

“Home hums beneath every lasting note.”

تلما عدس

الطموح… فنّ الصبر على مهل الزمن

طموحها ليس قفزةً تستعير صخبها من المنصّات، بل سُلّمٌ تُبنى درجاته بميليغرامات الدقّة كل يوم. تُخطّط بوعيٍ طويل النَّفَس: مفكّرة تعرف مواعيدها، تمارين تنمو نموّ الشجر، رؤىً تُختبر قبل أن تُعلن. تؤمن أنّ النجاح صوتٌ منخفض يبدأ من الداخل ثمّ يقوى حين تكتمل علّته، وأنّ الاستمراريّة أصدق من المفاجأة.

لا تهرول خلف التصفيق، بل تجعل التصفيق يلحق بها حين يستحقّ. تُراكم خبرةً فوق خبرة، وتُشذّب الطريق من شهوة الاختصار. لذلك تمضي بثقةٍ لا تتكئ على صدفة، وبسكينةٍ لا تُساوم على الجودة. هكذا يتحوّل الزمن من خصمٍ مُتعِب إلى شريكٍ كريم.

“Dream quietly, build steadily, shine endlessly.”

تلما عدس

الخاتمة… الفنّ حين يُعاش لا يُؤدَّى

ليست تلما عدس مجرّد فنانةٍ تجمع مواهب عدّة، بل صيغةٌ مكتملةٌ لفكرة الفنّ نفسه: جسدٌ يكتب، صوتٌ يشرح، وعقلٌ يتولّى هندسة الانسجام بينهما. في الحافّة بين البيان والإيحاء تنحت مكانها الخاص: ترفض العاديّ بلا ضجيج، وتنتصر للدقّة بلا تكلّف، وتُصالح الشغف مع الانضباط كي يخرجا معًا بنبرةٍ إنسانيّةٍ تليق بالبقاء.

تلما عدس

وحين يُسدل الستار، لا ينتهي الأثر؛ شيءٌ في المتلقّي يكون قد تبدّل: تنفّس بعمقٍ أكبر، أصغى إلى صمته أطول، وآمن أنّ الفنّ، إذا صِيغ من موادّ صادقة، لا يُستهلك في اللحظة بل يسكن ويُنضج. هناك فقط نفهم العبارة الأخيرة كما ينبغي: إنّها لا تؤدّي الفنّ… إنّها تعيشه.

“Art isn’t performed—it’s lived.”

شربل الغاوي و تلما عدس

شربل الغاوي

مخرج – صحافي وناقد سينمائي

شربل الغاوي و تلما عدس

Leave a comment