
نادي شمالي… صوتٌ يوقظ المعنى حين تنام الأضواء – شربل الغاوي
ليس كلّ صوتٍ يُولد ليُزيّن حفلةً عابرة. بعض الأصوات وُجدت لتردّ للغناء كرامته الأولى: أن يكون اعترافًا حارًّا لا زينةً على واجهة السوق. من هذا السِبط يأتي نادي شمالي؛ يغنّي كمن يكتب وصيّة قلبه، ويقف على المسرح لا ليرفع النبرة، بل ليرفع الصدق.
ملامح صوت له هوية
صوت نادي ليس لامعًا على نحوٍ صاخب، بل دافئٌ على نحوٍ مقيم. في طبقته انحناءة شجنٍ لا تتصنّع، ورجفةُ فيبراتو محسوبة لا تُهدر حرفًا. يعرف كيف يترك للهواء مساحته بين الجُمل، وكيف يضع الكلمة في مكانها كحجرٍ كريمٍ في خاتمٍ قديم؛ لا تُرى قيمته من بريقه فحسب، بل من ملاءمته للإصبع الذي يلبسه.
لا يستعرض علوّ الطبقات، بل يُحسن الاقتصاد العاطفي: يهمس حين ينبغي أن يهمس، ويشدّ القوس حين يحين وقت الرمية. هكذا يخرج الغناء من حنجرةٍ صلبة وإحساسٍ طريّ في آنٍ معًا؛ صلابةُ صناعةٍ، وطراوةُ قلب.
أداء يكتب النصّ من جديد
نادي من قلّةٍ تُنطق الحرف بمعناه لا بلفظه. يلوّن المقطع على قدر ما يحتمل المعنى، فيستحيل اللّفظ مشهداً: تنفّسٌ قبل الكلام، التفاتةٌ بين شطرٍ وشطر، توقّفٌ قصير كوقفة مُصلٍّ عند عتبة مقام.
هذه التفاصيل الصغيرة هي سرّ الحضور؛ فالغناء ليس طبقاتٍ تُقاس على عتبات البيانو وحدها، بل إدارة لحظة: أين يبدأ النَّبض؟ أين يهدأ؟ أين تترك الحزن يقف على أطراف قدميه بلا سقوط؟
“شفتا بالقدس وحبيتا”… حين تصير المدينة محبوبَة
في أغنيته الممهورة بصورةٍ لا تُنسى، “شفتا بالقدس وحبيتا”، يسلّم نادي قلبه لمدينةٍ تُشبه أمًّا وأسطورةً وجرحًا. كلمات عصام زغيب، ولحنٌ مشترك بين جوزيف جحا وأحمد درويش، وتوزيع طارق عاكف الذي يعرف كيف يبني مشهداً سمعيًّا تتوالد فيه الطبقات دون أن تتزاحم.
هنا، لا تتقدّم الحبيبة بوصفها شخصًا فحسب، بل رمزًا يعبر الأزقّة ويُشعل الذاكرة: هديّة تُقدَّم بلا ورق تغليف، وموعدٌ مؤجّل على أبوابٍ مغلقة تنتظر أن تُفتح. نادي لا يصرخ بالقدس، بل يهمسها؛ يمنحها ما لا تمنحه الشعارات: حُبًّا قابلاً للغناء.
لماذا لم يأخذ حقّه؟
لأنّ الضوء لا يوزَّع بعدل. ثمّة سوقٌ يفضّل الضجيج المعبّأ في علب، وخوارزمياتٌ ترعى ما يلمع بسرعة، وتشير إلى ما يكثر لا إلى ما يستحق. في هذا المناخ، ظلّ نادي شمالي وفيًّا لطبعه: لا يساوم على نبرةٍ صادقة، ولا يطارد موجةً قصيرة العمر.
لم ينقطع عن الغناء، لكنّه انقطع عن المساومات؛ فبقي صوته في خانة “الذائقة النظيفة”، بعيدًا عن حملات الترويج العابرة. غير أنّ البُعد عن الضجيج ليس عطبًا دائمًا؛ أحيانًا يكون قيمةً مؤجّلة، وسيرةً تنمو بهدوء حتى يحين وقتها.
بصمة وسط تماثل الأصوات
في زمن تتشابَه فيه الحناجر وتُقلَّد الوصفة، يجيء نادي بنبرةٍ تُعرَف من مَيلتها: دفءٌ في القرار، واشتغالٌ رشيق على المساحات المتوسطة، وحرصٌ على أن يبقى الكلام سيّد الموقف لا ضحيّته.
لا يترك للجملة الموسيقية أن تجرّه حيث تشاء؛ يمسك زمامها كقائدٍ يعرف الطريق، ويصون الكلمة من الإفراط، ويستخرج من صمتِ ما بين النغمات بلاغةً لا تُكتَب على الورق.
ما العمل؟
من حقّ هذا الصوت أن يُسمَع خارج حدود الزملات الضيّقة. من حقّه أن يُعاد تقديمه في حفلاتٍ تُصمَّم له، في تسجيلاتٍ تُبرز خامته، وفي حملاتٍ تُعرّف به لا تستهلكه. النقد الرصين مطالبٌ بأن يضع اسمه حيث يجب، والمنصّات الجادّة مطالبةٌ أن تمنح الأغنية مكانًا لائقًا لا خانةً لحظيّة.
وإنصاف الجمهور لا يقلّ أهمية: أن يجرّب الاستماع كما يُفترض بنا أن نستمع، لا كما تُريد بنا القوائم السريعة.
اسمٌ للذاكرة… لا للصدفة
قد تتأخر العدالة الفنيّة، لكنّها لا تغيب كلّها. الأسماء التي تُبنى على الصدق تبقى، ولو مرّت تحت الرادار زمنًا. نادي شمالي واحد من هؤلاء: إذا نطق اسمه الهواء، حضر المعنى. وإذا دخل إلى الأذن، صحّحت الروح جلستها.
لا يحتاج إلى ضجيجٍ يُزركشه؛ يحتاج فقط إلى أن نرفع السّمع إلى ما فوق العادة، وأن نقول اسمه كما يُقال الشيء الثمين: على مهل، وباحترام.
خلاصة القول: نادي شمالي ليس ظاهرةً سريعة ولا مشروع “ترند”. إنّه صوت معنى، يضع القلب في موضعه الصحيح من الجملة، ويذكّرنا بأنّ الغناء حين يُحسن أداؤه، يصير فنًّا يُربّي الذائقة قبل أن يُطربها. وإذا كان لم يأخذ حقّه بعد، فذلك لأنّ حقّه أكبر ممّا تمنحه مواسم عابرة؛ حقّه أن يُحفظ في خانة الأصوات التي تصنع ذوقًا، لا ضجيجًا.
شربل الغاوي
مخرج – صحافي وناقد سينمائي
Leave a comment