Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

سمية بعلبكي… وجدانُ الطرب الأصيل – شربل الغاوي

سمية بعلبكي

سمية بعلبكي… وجدانُ الطرب الأصيل – شربل الغاوي

ليس الطربُ عند سمية بعلبكي زخرفةَ نغمةٍ على مقام، بل يقظةُ ذاكرةٍ تستعيدُ نفسها كلّما تنفّست. ليست حنجرةً متقنة فحسب؛ إنّها ضميرٌ موسيقيّ يرفض أن يُختزل الغناءُ في ترفٍ عابر، ويصرّ على إعادة الوزن للكلمة، والبعثِ في اللحن طاقته الأولى، وردِّ الهيبة إلى المسرح كي يخفت ضجيجُ العابرين. في حضورها تتخفّف الأغنية من زينةٍ لا تحتاجها، وتستعيد وقارها: لا استعراض بل اعتراف، لا خدعة بل حقيقة، لا صورةٌ تُموّه الصوت، بل صوتٌ يُهذّب الصورة. هناك، في المدى الذي بين الشهيق والزفير، يتّسع النفسُ الطويلُ لمعنى لا يتعب.

الصوت الذي يُضيء من الداخل

سمية من الأصوات التي لا تُؤخَذ بعلوّ النغمة، بل بدفءِ مادّتها. خامتُها جسدٌ لحنيّ فيه حنانٌ غير مُدلّل، وصلابةٌ غير غليظة. تدخل الجملة كما يدخل الضوء من شقّ ستارة: لا يُفزع العين، لكنّه لا يدعها تغمض. تمسك رأس المقام وذيله دون غواية زخرفة، وتعرف متى تُفسح للصمت مكانًا يشرح ما تعجز اللغة عنه. انفعالُها منضبطٌ بلا برود، ووقارُها مرنٌ بلا تصلّب؛ فالهزّة التي تلمس القلب عندها لا تصدر عن الديسيبل، بل عن عمقٍ يُصغي لما وراء النبرة.

مدرسةٌ تُواصل ولا تُقلِّد

انتماؤها لمدرسة الطرب ليس شعارًا يُعلّق، ولا حنينًا مُعطّلًا. هو معرفةُ أصولٍ تُستعاد في كلّ أدائها وكأنّ الأبجدية تُتعلَّم من جديد: همزةٌ في موضعها، ومدٌّ حين يلزم، ووقفاتٌ عند أطراف المعنى. لذلك تبدو استعاداتُها استمرارًا موقّرًا لا ترميمًا للماضي؛ لا ظلًّا على الجدار، بل امتدادَ له في زمنٍ آخر. وحين تمسك بالنصّ لا تغنّي حروفَه فحسب، بل تُعيد ترتيبَ روحِه؛ تُصوّب المعنى وتُجلّي صورته بحيث ينهض من الورق إلى الهواء مُمَعنًا في صدقه.

بين الأصالة والاختبار

تمشي سمية على الحدّ بدقّة العارف: لا تُفرّط في هوية الطرب، ولا تهاب اختبار بنيةٍ إيقاعيّة أو توزيعٍ حديث يبدّل زاوية الضوء. التجريب عندها بحثٌ عن حياةٍ للقديم لا نيشانٌ للغرابة. تُجاور في أدائها لهفةَ البدايات وثقةَ المدرسة وشغبَ السؤال، لكنّ الميزان يبقى موسيقيًّا صرفًا: هل خدم التوزيعُ المعنى؟ هل بقيت الكلمة سيّدة البيت؟ إن نعم، تقدّمت؛ وإن لا، عادت خطوةً إلى الوراء بلا خجل. فالمعيار هو الصدق، وما عداه زينةٌ لا تصمد.

مسرحُ الحضور لا حضورُ المسرح

على الخشبة، لا تحتاج سمية إلى أضواءٍ تُعرّف عنها؛ يكفي أن تصعد ليصير الضوءُ مستمعًا. تتقدّم ببطءٍ محسوب كأنها تُهيّئ روح المكان لِما سيُقال: هنا ستُروى حكاية، لا فقرة ستُؤدّى. تتعامل مع الفرقة شركاءَ معنى: تُشير بالنَّفَس، تُلمحُ بالإيماءة، وتستدعي من الإيقاع شدّةً أو رِفقًا بحسب ما يُمليه النصّ. وعندما تُمسك بالجمهور تمسك به من موضع مُحترَم: تُربّي سمعَه لا تُدلّله، وتُذكّره أن الإصغاء مشاركةٌ ومسؤولية، لا استهلاكٌ ولا وجاهة.

النصّ الذي يمتحن الحقيقة

اختياراتها اللغويّة صارمةٌ من جهة، رحيمةٌ من جهة أخرى: تميل إلى جملةٍ تعرف ما تقول، وصورةٍ شعريّة تبقى في النفس بعد انطفاء الجملة. تدرك أنّ الغناء العظيم يبدأ على الورق قبل أن يبلغ الحنجرة؛ لذلك تُنقّي اللفظ من رطانته وتترك له صدقه، وتضع اللحن في موقعه: لا يتقدّم على الفكرة، بل يفتح لها الطريق. وعندما يلتقي نصٌّ راسخٌ بصوتٍ أمين، يصير السمعُ ساحةَ امتحان للحقيقة لا مسرحًا للتزيين.

حين يُصبح الوطن مقامًا

للوطن عند سمية حصةُ القلب ومقامُ الروح. لا تغنّي له بوصفه شعارًا، بل باعتباره معنى يُعاش. في أدائها للوطن يتجاور الخيطُ الحنون بالخيط الصلب: مناجاةٌ تَمسح الغبار عن الذاكرة، ووقفةٌ تُعيد إلى الكرامة سَمتها. تُحوّل رفيفَ العَلَم إلى إيقاع، وخشونةَ الطريق إلى معنى قابلٍ للغناء. فلا تتعالى على الناس باسم “الأغنية الوطنية”، ولا تُدنّي المعنى باسم الجماهيرية؛ تُعطي للوطن نشيدًا يُربّي ولا يُزايد، يضمّد ولا يُخدّر، يوقظ ولا يصرخ. هكذا يغدو التراب صورةً تُسمع، والناسُ جوقةَ حياة، والأغنيةُ مساحةَ عهدٍ يتجدّد.

امرأةٌ تعيش الفنّ لا “تشتغله”

بين السطور سيرةُ إنسانٍ صبور: مواجهةُ إنتاجٍ مرتبك بلا تهافت، رفضُ الطريق الأقصر إن صغّر المعنى، والقدرةُ على النهوض من عثرةٍ شخصية بلا ادّعاء بطولي. لا ترفع صوتَها لتغطي نقصًا، بل لتُكمل فكرة؛ لا تُعادي الشائع لأنه شائع، بل لأن فيه كثيرًا ممّا لا يجوز استسهالُه. عندها الفنّ عملٌ أخلاقي بقدر ما هو جمالي: أن يُقال ما يستحق القول بالطريقة التي تليق بما يُقال.

ماذا تُضيف سمية بعلبكي إلى المشهد؟

تُعيد ترتيب المعايير بلا استعلاء. تُذكّر أن الجودة ليست نخبويةً بل حاجةٌ عامة، وأن الجمهور، مهما أُغرِي بالخفيف، ينهض حين يُقدَّم له الأجمل بكرامة. تُثبت أن المزج بين الأصالة والحداثة ممكنٌ متى كان المِقياس هو المعنى، وأن الموسيقى، إذا تُركت لتكون فنًّا لا مُنتَجًا، استعادت سلطانها على الذائقة بدل أن تُستلب لها.

خاتمة: حين تصير الأغنية وطنًا صغيرًا

في زمنٍ يُراد للصوت أن يكون صدى الصورة، تُصرّ سمية بعلبكي أن تعود الصورةُ صدى الصوت. تُعيد ضبط الإيقاع الأخلاقي للأغنية، وتمنح المستمع سببًا ليثق بأن الفنّ ما زال قادرًا على التهذيب والتغيير. وحين تنطفئ الأضواء وتظلّ النغمة معلّقةً في الهواء، نفهم أنّ الرسائل الكبيرة لا تحتمل أيَّ صوت؛ تحتاج قلبًا يتّسع لها ونَفَسًا لا يكلّ من حملها. هناك، عند التخوم بين الحِرفة والوحي، بين الانضباط والاندهاش، بين صوتٍ يُغنّي وصوتٍ يُربّي، تقيم سمية بعلبكي… وتحرس كرامةَ الأغنية، وتوقظ في الوطن صوتَه.

شربل الغاوي

مخرج – صحافي وناقد سينمائي

Leave a comment