Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

جو قديح… ساعةٌ تختصر فوضى العمر – شربل الغاوي

جو قديح

جو قديح… ساعةٌ تختصر فوضى العمر

ليست ساعة جو قديح على الخشبة مجرّد موعدٍ مع الضحك؛ إنّها جهازُ قياسٍ لنبض مدينةٍ تتنفّس بين فُسحة المدرسة وضجيج السهر، بين صفٍّ يقف فيه تلميذٌ أمام “الناظرة” وشارعٍ يسلّم مفاتيحه لشابٍّ عند «الفاليه باركينغ». في هذه الساعة، يتحوّل اليوميّ إلى مسرحٍ كامل: الكرسيّ يصير مقعدَ انتظار، والميكروفون يصبح جرسَ حصة، والفراغ المحيط ممشىً طويلًا لقصّةٍ يعرفها الجميع لكن لا أحد يجرؤ على قولها بهذه الصراحة.

المدرسة… حيث يبدأ كلّ شيء

يفتح جو الدفتر من الصفحة الأولى: صفٌّ صباحيّ، حقائب أثقل من الأكتاف، ونظرة “ناظرة” تُعلّق العام الدراسيّ كلّه في حاجبٍ مرفوع. يُقلّب الأصوات بخفّة: أمّ تتفقد اللائحة، أبٌ يحسب القسط كأنّه معادلةً بلا حلّ، وتلميذٌ يختبر باكرًا فكرة “الطابور” التي ستلاحقه في المصارف، في الدوائر الرسمية، وفي الحياة.

لا يهاجم المدرسة، بل يعرّي “الدرس” الحقيقيّ فيها: أن نكبر ونحن نحفظ القواعد أكثر مما نتعلّم الحريّة، وأن نعرف علامات السلوك قبل أن نفهم معنى الكرامة. يضحك الجمهور حين يؤدّي جو “استدعاء وليّ أمر” بجدّيةٍ مبالغٍ فيها، ثم يبتلع الضحكة حين يكتشف أنّنا كبُرنا وما زلنا ننتظر نفس الاستدعاء من حارس بناية، أو موظّف شباك، أو مدير مكتب.

الناظرة… مرآة السلطة الصغيرة

“الناظرة” عند جو ليست شخصًا بقدر ما هي فكرة: ذلك الصوت الذي يعلو فقط لأنّ معه دفتر العلامات. يُمسك الميكروفون مثل طبشورةٍ طويلة، يكتب في الهواء قوانين أشدَّ صرامةً من اللازم، ثم يمحوها بابتسامةٍ عابثة. في لحظة، تعود القاعة كلّها إلى المقاعد الخشبية: نرفع أيدينا لنأخذ دور الكلام، نخاف من التأخير خمس دقائق، نراقب نظرة الرضا أو العقوبة. يذكّرنا أنّ أول درسٍ في السلطة يبدأ من باب الصفّ… وآخر درسٍ فيها لا يزال يلاحقنا عند كلّ باب.

السهر… ضحكةٌ تمشي حافيةً على الإسفلت

وعندما يسدل الليل ستارته، يتبدّل المشهد من طبشورةٍ إلى نيون. السهر في أداء جو ليس صخبًا فحسب؛ إنّه محاولةُ إنسانٍ أن يؤجّل أسئلته إلى الغد. يلتقط تعثّر الخطى عند الثالثة فجرًا، ضحكة الطاولة المجاورة التي تخفي تعب أسبوع، و“دي جي” يرفع الصوت كلّما هبطت الروح. ثم يرسل جملةً خفيفة كإبرة: “أقسى أنواع الوحدة تلك التي تكتمل بين مئة شخص.” فيسكت الصفُّ مرّةً أخرى، هذه المرّة ونحن كبار.

«الفاليه باركينغ»… مفاتيح مؤجَّرة ووقتٌ مستعار

يأتي المشهد الأكثر رمزية: “الفاليه باركينغ”. على الخشبة، يصبح مفتاحٌ صغير أكبر من المدينة. نسلمه كي يكسب شابٌّ رزقه، وكي نكسب نحن دقيقةً إضافيةً في الداخل. يضحك جو على الحسابات: مَن “يفسّح الطريق” ومَن “يحتلّ الرصيف”، مَن يدفع بقشيشًا ليشتري راحةَ بالٍ لحظيّة، ومَن يبيع وقته قطّاعةً صغيرةً بين السيارات. لكن وراء النكتة سؤالٌ اجتماعيّ حادّ: كم من المفاتيح سلّمناها لغيرنا كي لا ننتظر؟ مفتاح قراراتنا، مفتاح ذائقتنا، مفتاح وقتنا الذي صار مستعارًا من حياةٍ لا نملكها؟

ممثلٌ يكتب بالجسد ما تعجز عنه الكلمات

سرّ جو أنّه لا يترك الفكرة وحدها؛ يمدّ لها جسدًا. كتفه حين ينحني يذكّرك بممرّ المدرسة الضيّق، ويده حين تُلوّح كأنّها تبحث عن “فاليه” في العتمة، وصوته حين يعلو فجأة يردّك إلى نداء الناظرة: “سكوت!”. يستعمل الصمت مثل نوتةٍ موسيقية: يترك فاصلةً طويلة قبل القفلة، فيسمع الجمهور ما لم يُقل. وهذه حرفته: أن يجعل غير المنطوق أوضح من الجملة، وأن يحوّل الضحكة من نهايةٍ إلى بداية سؤال.

مسرح الساعة… خلاصة اليوم اللبناني

بعد ستين دقيقة، لا يخرج المتفرّج وفي يده “نكتة” يرويها فحسب؛ يخرج ومعه خريطة صغيرة لحياته: كيف اصطفّ طويلًا، ضحك سريعًا، سلّم مفاتيحه قليلًا، وسكت كثيرًا. هذا هو درس جو: أن المسرح ليس ديكورًا ولا مؤثّرات، بل علاقة صادقة بين فنانٍ يلتقط الكلام المتروك على أطراف يومنا، وجمهورٍ يعرف أنّه جزء من المشهد.

في النهاية، يطفئ الميكروفون كأنّه يقرع جرسَ المغادرة. ننهض مثل صفٍّ ينتهي، لكنّنا نعرف أنّ الحصّة الحقيقية بدأت الآن: خارج القاعة، هناك مدرسة أكبر، ناظرة أشدّ حضورًا، ليلٌ أطول، و«فاليه» ينتظر مفاتيحنا. هل نسلّمها من جديد… أم نحتفظ هذه المرّة بحقّنا في قيادة الطريق؟

شربل الغاوي

مخرج – صحافي وناقد سينمائي

شربل الغاوي و جو قديح

Leave a comment