Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

الأيقونة… صلاة مكتوبة بريشة غادة داغر – شربل الغاوي

غادة داغر

الأيقونة… صلاة مكتوبة بريشة غادة داغر

ليست الأيقونة لوحةً للتزيين ولا حرفةً تجارية، بل هي إنجيل يُكتَب بالألوان، وصلاة تُخطّ بالذهب والأحمر والأزرق. الأيقونة لاهوتٌ صامت، يترجم ما تعجز الكلمات عن قوله، ونافذة مفتوحة على الأبدية. هذا هو الطريق الذي اختارته غادة داغر، أستاذة في كتابة الأيقونات، والتي لم تأتِ مسيرتها من رغبة في الفن، بل من نداءٍ خرج من قلب الألم.

جلست ذات يوم قرب سرير زوجها المريض في المستشفى، والريشة بين يديها تكتب أوّل أيقونة، كأنّها كانت تصلي باللون بدل الكلمة. هناك، في لحظة الفقدان والانتظار، كانت البداية. وحين غاب الزوج، لم تسمع صوت اليأس، بل سمعت صوت الله يقول لها: “احملي أمانة البيت”. فصار فنّها رسالة، ورسالتها قربًا من الرب، وليست تجارة تُباع ولا زخرفة تُعلَّق.

تؤمن غادة أنّ الريشة حين تنغمس في اللون، تنغمس أولًا في الصلاة. وأنّ كل خطّ هو اعتراف إيماني، وكل وجه يُسطَّر هو مرآة للسماء. ولذلك تُقال العبارة الخالدة: “الأيقونة تُكتب ولا تُرسم”. فهي ليست ابتكارًا بشريًا، بل تقليدًا إلهيًا يُسلَّم من جيل إلى جيل، كما يتوارث المؤمنون الصلاة.

وجوه الأيقونات… إنجيل الألوان

في أعمال غادة، تصير الوجوه كتابًا مفتوحًا على السرّ.

في أيقونة العذراء مع الطفل يسوع، يذوب وجه الأم في وجه الابن، وتلتحم الملامح كأنها وشم أزليّ في قلب البشرية. العذراء هنا ليست صورة حزن فقط، بل وجه الحنان والطاعة، فيما الطفل يضيء كإعلانٍ مسبق للقيامة.

وفي المسيح الضابط الكل، يتجلّى الحضور بوجهين: مرّةً نراه مهيبًا ممسكًا بالإنجيل، يبارك بيده، محاطًا بالقديسين والأنبياء، ليعلن أنّه كلمة الله وحامي الكنيسة؛ ومرّةً نراه وحده، بوجهٍ يملأ الفراغ، نظراته تخترق القلب كأنّه يخاطب كل مؤمن وجهاً لوجه: “أنا الحاضر الذي لا يغيب”.

أما الصليب المزيّن، فليس خشبًا جامدًا، بل تاريخٌ مصغَّر: موت وحياة، ألم ومجد، دمعة ونور. الأحجار الكريمة والألوان السماوية حوله تقول إنّ الصليب الذي كان عارًا صار عرشًا للمجد.

وفي وجه القديس شربل، نجد الصمت الناطق. عيناه المغمضتان لا تهربان من الدنيا، بل تنفتحان على سرّ الله، ولحيته البيضاء وانحناء ملامحه يترجمان النسك الذي صار صلاة لا تنتهي.

أيقونة النبي إيليا تجسّد نبض الأنبياء: رجل يجلس على صخرة الوحدة، الغراب يطعمه، والبرّية تحتضنه، كأنّه صورة الرجاء وسط القحط، وصوت الصمت الرقيق في العاصفة.

أما التجلي على جبل طابور، فمشهد يفيض رهبة: المسيح في نور لم يُخلَق، الرسل يتساقطون من عظمة المجد، وموسى وإيليا يحاورانه، لتلتقي الأرض بالسماء، والزمن بالأبدية.

وفي أيقونة الإفخارستيا، يتحوّل اللوح إلى مذبح حيّ: المسيح يمدّ يده فوق الكأس، يقدّم ذاته خبزًا وخمرًا، والقديسون يحيطون به، كأنّها عودة سرمدية إلى العشاء الأخير، واستمرار له في كل قداس يُقام على الأرض.

الأيقونة… كتابة القلب باللون

كل أيقونة عند غادة ليست مجرد فن، بل كتابة بالروح.

الذهب عندها أبدية،

الأزرق سماء،

الأحمر دم فداء،

والعيون الواسعة نوافذ على اللانهاية.

هي لا تبحث عن جمالٍ شكليّ، بل عن جمالٍ لاهوتيّ. لذلك حين نقف أمام أيقونتها، لا نشعر أننا أمام لوحة جامدة، بل أمام حضور حيّ، يكلمنا بالصمت، ويرافقنا في الصلاة.

غادة داغر… حين يتحوّل الألم إلى دعوة

ما يميّز غادة أنها لم تبدأ من فرح ولا من رغبة في الفن، بل من ألم شخصي عميق. لكنّها حوّلت الحزن إلى دعوة، والفقدان إلى بداية. لم تكتب لتبيع، بل لتشهد. لم ترسم لتزيّن، بل لتفتح لنا نافذة على السماء.

أعمالها ليست حِرفة، بل رسالة. كل أيقونة خطّتها، من العذراء إلى المسيح، من شربل إلى إيليا، من الصليب إلى الإفخارستيا، هي صلاة حيّة مكتوبة بالألوان.

وهكذا، صار لوح الخشب مذبحًا، وصارت الريشة إنجيلاً آخر، وصارت غادة شاهدة بأنّ الرب قادر أن يحوّل كل مأساة إلى نور، وكل دمعة إلى صلاة، وكل ريشة صغيرة إلى طريق مفتوح نحو الأبدية.

شربل الغاوي

مخرج صحافي وناقد سينمائي

شربل الغاوي و غادة داغر

Leave a comment