
ماريا سكاف… من رماد بيروت يولد الأمل – شربل الغاوي
ليست كل رحلة فنية تبدأ بموهبة عابرة، فهناك من يدخلون الفن كما يدخلون القدر. هكذا تبدو تجربة ماريا سكاف، المهندسة المعمارية التي جعلت من اللوحة امتدادًا لوعيها، ومن الألوان فضاءً يتّسع للروح والذاكرة والإنسان. تقف ماريا أمام جمهورها ليس كهاوية تبحث عن بداية، بل كصوت ناضج يحمل مشروعه ورؤيته: فنّ يرفض أن يكون مجرّد تقليد، ويصرّ أن يكون شهادة حياة.
ماريا ترسم بالمعجونة النافرة، تمنح اللوحة بُعدًا ملموسًا، كأنها تُشيّدها كما تُشيّد الأبنية. لكن العمارة هنا ليست حجرًا وجدرانًا، بل مساحات من البوح والألم والأمل. وفي كل لوحة، هناك عيون صامتة لكنها تخبر، وجوهٌ مشققة لكنها ناطقة، وألوانٌ تخرج من صميم التجربة الإنسانية لا من رفاهية الخيال.
الانفجار… لوحة الدم والذاكرة
لوحتها عن انفجار بيروت تقف كصرخة على الحائط. كتلة حمراء متفجرة تنسكب كبركان، أجسادٌ صغيرة تتناثر أسفلها، وظلال بشرية تتحرك كأطياف أرواحٍ لم تنطفئ بعد. الأحمر ليس هنا لونًا، بل دمًا محمولًا من الواقع إلى القماش، واللوحة ليست مجرد ذكرى، بل محكمة مفتوحة تدين الخراب وتُعيد إلى الذاكرة الوجع الجماعي. في هذه اللوحة يتقاطع وعي المعمار مع ألم الإنسان: الخراب الذي يصيب الحجر والجسد في لحظة واحدة.
الأمل… حين يولد النور من قلب العتمة
أمام هذه الصرخة، تضع ماريا لوحة أخرى تردّ بها على الخراب: “بعد في أمل”. في وسط العتمة يخرج شعاع ضوء، والظلال البشرية تتحرك نحوه بتردّد وإصرار. الألوان هنا ليست زينة بل فعل مقاومة، محاولة رسم مستقبل من رماد حاضرٍ متهاوٍ. من يقرأ اللوحة يدرك أن ماريا لا ترسم تفاؤلًا ساذجًا، بل عنادًا ضد الاستسلام، وكأنها تقول: إذا كان الانفجار قد سلب المدينة روحها، فالفن قادر أن يعيد إليها قلبها.
الأقنعة… وجوه الإنسان الممزّق
في لوحتها بالأبيض والأسود، حيث تتراكم الوجوه كالأقنعة، يدخل المشاهد في مواجهة مباشرة مع ذاته. وجوه متشظية، عيون شاحبة، ملامح تتداخل بين القناع والحقيقة. هذه ليست مجرد لوحة، بل مرآة لداخلنا نحن: صراعاتنا، هشاشتنا، وحياتنا الممزقة بين أدوار متناقضة. العمل أقرب إلى مختبر نفسي مفتوح، حيث الفن يتحول إلى علاج، واللوحة إلى وسيلة للتفريغ والمصالحة مع الذات.
الحب… هشاشة متماسكة
لوحة العاشقين العانقين تكشف كيف ترى ماريا الحب: ليس صورة مثالية، بل معمار هشّ يتشقّق ويترمم. الأجساد هنا متفتتة، لكنها متلاحمة في الوقت نفسه، كجدار متصدّع لا يسقط لأنه قائم على العاطفة. الألوان الدافئة في مقابل التشققات تقول إن الحب ليس وعدًا بالكمال، بل مسيرة دائمة من الانكسار والالتحام، من الجرح والشفاء. إنها قراءة شاعرية لمعمار العاطفة البشرية.
الأيقونات… صلاة العيون الجديدة
في مساحة أخرى من أعمالها، تفتح ماريا باب الروح. الأيقونات التي ترسمها ليست تقليدًا جامدًا، بل إحياءً جديدًا. العذراء، المسيح، القديسون… لكن بوجوه أكثر قربًا للإنسان، بملامح حقيقية وعيون ناطقة. أيقوناتها تصلّي باللون قبل أن تصلّي بالكلمة، وتخاطب المتلقي مباشرة لا عبر وساطة. هنا تظهر قوة ماريا في خلق فنّ روحي معاصر، يحافظ على جلال الأيقونة لكنه يكسر صمتها لتصبح صوتًا حيًا.
التجريد… الفوضى المنظمة
في لوحاتها التجريدية، حيث تتشابك الخطوط والألوان في شبكة متداخلة، نجد صورة موازية لحياتنا الحديثة. دوائر وخطوط لا بداية لها ولا نهاية، لكنها تصنع في النهاية نسيجًا متماسكًا. كأنها تقول: الفوضى ليست عبثًا، بل نظام مخفي، وأن الجمال يمكن أن يولد من التعقيد.
الفن كعلاج ومساحة لقاء
ماريا سكاف لا تضع نفسها في قالب واحد. من المأساة الجماعية إلى الرجاء، من الأقنعة إلى الأيقونات، من التجريد إلى العناق الإنساني، تصنع عالماً متعدد الأبعاد. هذا التنوع ليس تشتتًا، بل مشروع متكامل ينطلق من قناعة راسخة: أن الفن رسالة حياة وعلاج وذاكرة جماعية في آن. ولهذا اختارت أن تجعل من محترفها الفني Perspective في زحلة مساحة مفتوحة للتعليم والرسم، حيث يتحول اللون إلى علاج، واللوحة إلى وسيلة لاكتشاف الذات عند الكبار كما الصغار.
اللوحة كذاكرة… والريشة كصلاة
ماريا سكاف ليست مجرد فنانة، بل شاهدة عصر، وناقلة وجع، وصانعة رجاء. لوحاتها تقول إن الإنسان قادر أن يحوّل الدم إلى ذاكرة، والعتمة إلى نور، والأقنعة إلى اعتراف، والحب إلى صمود، والصلاة إلى حياة.
وفي محترفها كما في معارضها، تقف ماريا سكاف كمن يقف أمام مرآة العالم: صرخة هنا، رجاء هناك، وعيونٌ لا تكفّ عن الكلام. وفي كل مرة ترفع ريشة جديدة، تقول لنا:
“الفن ليس زينة على الحائط… الفن شهادة حياة، وأفق جديد يولد من الرماد.”
الناقد السينمائي شربل الغاوي.
Leave a comment