Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

مايا أبو خزام… صوتٌ يخرج من ذاكرة البيوت القديمة – شربل الغاوي

مايا أبو خزام

مايا أبو خزام… صوتٌ يخرج من ذاكرة البيوت القديمة – شربل الغاوي

في حضن الجبل، حيث تتشابك القرى كالأغصان وتتجاور الحكايات كأنها فصول من كتاب واحد، وُلدت مايا أبو خزام. هي ابنة كفرحيم، غير أنّ طفولتها نبتت في تراب دير القمر، تلك البلدة التي تحتفظ حجارتها بذاكرة الأجيال. على درجٍ يطلّ على بيت ستّي، كبرت طفلةٌ تحمل في عينيها صفاء الطفولة وفي قلبها بذرة الحنين. هناك، في الأزقة التي تفوح منها رائحة التراب المبتلّ بعد المطر، وفي البيوت التي تُشبه الصناديق المملوءة بالأسرار، تلقّت أولى دروسها في الفن والحياة: جدٌّ يعزف على العود كأنّه يكلّم السماء، وجدّة تُنصت والدمعة تسبقها على خدّها وهي تستمع إلى وديع الصافي، فيما صوت فيروز ينساب من المذياع كصلاة تحفظ البيت من الغياب.

ومايا حين تروي تلك الذكريات، لا تملك إلّا أن تذرف دمعة. دمعة تخرج من مكان أعمق من العين، من قلبٍ ما زال يعيش في حضن الجدة ودفء البيت. كأنها كلّما ذكرت “ستّي” أعادت للحياة حضورها، وجعلت من الغناء وسيلةً لاستعادة صوتها، ووسيلة لتقول إن الفن ليس مجرّد نغم، بل امتداد لذاكرة إنسانية لا تفنى.

إنّها ليست مجرّد اسمٍ جديدٍ في عالم الغناء، بل ذاكرة حيّة تمشي على الأرض. ذاكرة تختزن دفء البيوت القديمة، وحلاوة الجيرة، وصدق الأيام التي كان الغناء فيها خبزًا يوميًّا لا يُشترى ولا يُباع.

صوت يدخل إلى القلب

صوت مايا أبو خزام يملك سرّ الدخول إلى القلوب بلا استئذان. إنّه صوتٌ حنون، شفيف، كأنّه نَفَسُ الأرض حين تتنهّد. فيه دفء يعيدك إلى حضن الطفولة، وصدقٌ يشبه الاعترافات التي تُقال بلا تكلّف ولا خوف. هو صوت لا يعلو ليستعرض ولا ينخفض ليختبئ، بل يهمس ويعلو بقدر ما تحتاج الروح. يغنّي ليُداوي، لا ليُبهر؛ يقرّبك من نفسك، لا ليبعدك عنها. لذلك يبدو الغناء عندها فعل محبة، لا عرضًا مسرحيًا، ووسيلة لملامسة الروح قبل الأذن.

طفولة بلا هموم… وذاكرة بلا نسيان

تقول مايا إنها ما زالت تعيش في طفولتها الماضية، كأنها ترفض أن تفارق جلسة “العصرونية” مع ستّها، أو أن تفكّ ضحكةً كانت ترتبط بنسمة هواءٍ نقيّ وبدفء جيرةٍ لا تُعوّض. في الحيّ الأثريّ من دير القمر، حيث الأزقة تتنفس من جدرانها، عاشت أجمل الأوقات التي سبقت كلّ نجاح لاحق. تلك المرحلة لم تكن مجرد سنوات، بل كانت كنزًا تختبئ فيه كلّ مشاعرها الأولى، وكلّ صورها البريئة. تقول إنها لا تريد أن تخرج من تلك اللحظة، لأنها اللحظة التي شكّلتها، اللحظة التي جعلت الفن بالنسبة إليها ليس مهنة بل حنينًا دائمًا، ورغبةً في إعادة الزمن إلى بداياته البسيطة.

بين البيانو الكلاسيكي والتراتيل

مايا لم تأتِ إلى الفن صدفة. هي تلميذة البيانو الكلاسيكي، الذي علّمها النظام والدقة وأشعرها بقدسية النغمة، وابنة التراتيل التي غذّت قلبها بالقداسة والسكينة، ووريثة الرحابنة الذين صنعوا خلفية طفولتها. كلّ هذا لم يكن إطارًا خارجيًا فقط، بل مدرسة كاملة صاغت روحها. لذلك حين تغنّي اليوم “فيروزيات زياد الرحباني”، لا تبدو كمن يقلّد أو يستعيد، بل كمن يعيش التجربة من جديد. تغنّي كأنّها تعيد كتابتها بصوتها، كأنّها تُكمل النصّ المفتوح الذي بدأ قبل عقود وما زال بحاجة إلى أصوات تحفظه من الغياب.

فنّانة من زمنٍ أبقى

مايا أبو خزام ليست مجرّد صوتٍ صاعد، بل ابنة بيتٍ حمل الموسيقى في جيناته، ووريثة ذاكرةٍ جعلت من الفنّ وسيلة للبقاء. صوتها ينتمي إلى مدرسة الأصالة، حيث الغناء ليس تجارة بل صلاة، وحيث الصوت ليس للضجيج بل للخلود. حين تغنّي، تشعر أنها تنادي جدّتها لتخرج من البيت وتجلس إلى جانبها، أو أنّها تُعيد صدى عود جدّها ليتناغم مع مفاتيح البيانو.

إنها فنانة تعبر من الماضي إلى الحاضر، تحمل في صوتها خلاصة الأجيال، لتقول إن الفن الحقيقي لا يشيخ، وإن الأصوات التي تنبع من الأرض لا تُطفئها مواسم الضجيج، بل تبقى حيّة ما دام في الأرض قلب يسمع وذاكرة تعي.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.

Leave a comment