Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

علا الشرق : أربعون سنة من العشق… لا من الشهرة – شربل الغاوي

علا الشرق

علا الشرق : أربعون سنة من العشق… لا من الشهرة – شربل الغاوي

في زمنٍ بات فيه الصراخ يُسمّى غناءً، والمشهد استعراضًا، والأضواء هدفًا لا وسيلة، تخرج علا الشرق من عزلتها المُختارة، لا لتدّعي البطولة، بل لتُعلن حضورها العميق، بصوتٍ هو أشبه بخشوعٍ داخلي، وبموقفٍ لا يلين أمام إغراءات السوق.

أربعون عامًا مرّت على مسيرتها، لم تنحنِ خلالها لرياح التساهل، ولا انبهرت بأضواءٍ عابرة، ولا خانت الفنّ لتُرضي مزاج الشهرة العابث.

هي ابنة “جنون الريح”، لا لأنها مجنونة بالفن فقط، بل لأنها تركض خلف الجمال كمن يلاحق الحلم الأخير. غنّت “يا حبيبي” كأنها تهمس لظلٍّ غاب، وردّدت “وينك يا حبيبي” كأنها تنبش في ذاكرة القلب عن اسمٍ لا يُنسى، وعن غائبٍ لا يعوَّض.

ليست فنانة مناسبة للحفلات السريعة، ولا للّوائح الموسمية؛ هي حالة… حالة من الوفاء للطرب، من الانتماء لزمنٍ لم تَعِشه زمنًا، بل حملته في صوتها وأداءها وموقفها.

علا الشرق، كما وصفها الناقد جورج إبراهيم الخوري، هي “الصوت العاشق”، ذلك العاشق الذي لا يهمّه عدد المستمعين بقدر ما يعنيه أن تصل الكلمة الصافية إلى روحٍ واحدة على الأقل. لم تكن يومًا مقلّدة، ولم تُغوها تقنيات العصر لتُفرّغ الصوت من صدقه. كانت، وما زالت، تعتبر الغناءَ صلاةً، والعشقَ مذهبًا، والأغنيةَ وعدًا لا يُخلف.

منذ نعومة الإحساس، عشقت فيروز، وتشرّبت من صوتها روح الصباحات الأولى، وشذى البيوت العتيقة، وغُبار الأمكنة المقدّسة التي لا تطالها تجارات الفن. وليس صدفة أن يكون الراحل إلياس الرحباني من شجّعها على دخول نقابة الفنانين؛ فالرجل الذي صنع مجدًا موسيقيًا أدرك منذ اللحظة الأولى أن لصوتها رهبةً لا تُشبه سواها، ولقرارها الفني جدّيةً نادرة في هذا الزمن الملتبس.

غنّت أم كلثوم… لا كأرشيفٍ غنائي، بل كإحياءٍ لحالة لا تموت.

ردّدت “حيرت قلبي معاك” بصوتٍ فيه رجفةُ عاشقة، وغنّت “إنت عمري” كأنها تؤرّخ لحكاية عشقها للفن، لكلماتٍ لا تندثر، ولأداءٍ لا يتكرّر.

وما بين السطور، كانت تحيا تلك الأغاني كما لو أنها كُتبت لها وحدها… كانت تُؤدّيها لا كمؤدّية، بل كشاهدةٍ على عصرٍ غنائيّ نبيلٍ يُصارع لأجل البقاء.

وعندما تغنّي الرومانسية؟ يتحوّل صوتها. يهمسُ وكأنّه يختبئ خلف جفنٍ مُغلق، أو يُلامس كتف الخجل، أو يُقبل وجع الحنين برقةٍ نادرة. صوتها لا يروي الحب… بل يُمارسه. لا يحكي عن العاطفة… بل يعيشها، ويجعلها أكثر صدقًا من أيّ اعتراف.

لكن، ورغم هذا الوفاء للنغم القديم، لم تعتزل الحياة. تغنّي الجديد، لا لتُساير… بل لتُواكب وتقول: أنا هنا، لكن بشروطي. تُرضي أذواق جمهورها دون أن تساوم على القيم الفنية. تُدرك أن الفن لا يُقاس فقط بصعوبة اللحن أو عمق الكلام، بل بمدى الصدق، بالجرأة في الانتقاء، وبالقدرة على منح كل أغنية حقّها من الإحساس والوقار.

قالتها ذات يوم، لا بمرارة، بل باعتزازٍ لا يُشترى:

“الفن ليس شهرةً بلا قيمة… بل عشقٌ أعيشه، وهوايةٌ صارت مهنتي. لم أغنِّ في أماكنَ مشبوهة، ولم أدخل دهاليز الفن العاطل. الفن عندي مسؤولية، لا عرض أزياء.”

لم تتزلّف، ولم تحاول أن “تُعجب”. بل اختارت أن تكون على مقاسها هي… على مقاس الإحساس، ومقاس الكبرياء الفني.

أغنياتها لا تصلح للضجيج، ولا للرقص فوق السطح، بل للجلوس في حضرة الطرب، في طقوس الاستماع الصادق، حيث الكلمة لها وزن، والنغمة لها احترام، والصوت له مهابة.

علا الشرق… ليست نجمة سوشال ميديا، ولا زينة مقابلات، ولا صورةً في حفلة موسمية. بل هي أيقونةٌ من زمن الطرب الذي لا يُهين نفسه. هي خزانةُ أربعين عامًا من العطاء النقي، من الصوت الذي لم يتبدّل، ومن الموقف الذي لم ينكسر.

وفي كل مرةٍ تقف على المسرح، تُذكّرنا أن الفن ليس بضاعة تُباع وتُشترى…

بل رسالة، ونداء، وحقيقة تُقال بلحنٍ لا يموت.

فهي لا تغنّي لتملأ الوقت… بل لتمنح اللحظة معناها.

ولا تغنّي لتُصفّق الجماهير… بل ليصمت القلب أمام جمال الصوت، ويُصغي.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.

Leave a comment