Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

منير خليفة… حين يبكي الصليب بصوتٍ من الأرض – شربل الغاوي

منير خليفة

منير خليفة… حين يبكي الصليب بصوتٍ من الأرض

في أسبوع الآلام، حيث الأرواح تتكوّر على وجعها كأجنّة الروح، وحيث الصمت يصير لغة المؤمنين، ويغدو الرجاء أضعف من أن يُقال، وأقوى من أن يُنكَر… يعلو صوت لا يشبه أحدًا، ولا يُقلّد أحدًا، بل هو أقرب إلى شهقة ملاكٍ نسيَ أن السماء موطنه.

إنه صوت منير خليفة

ليس مغنّيًا في الكنيسة، بل كاهن ترنيمٍ ينثر البخور من حنجرته. صوته لا يُعزَف، بل يُنزَف. لا يُقال فيه “مطرب”، بل “شاهد”. شاهدٌ على الألم، على القيامة، على الإنسان حين يصير صلاةً تتجسّد.

في ريسيتال “من أعلى الصليب”، لا تدخل قاعة موسيقية، بل كنيسة تُفتح أبوابها في القلب. ترى منير واقفًا، لا كشخص، بل كرمز. كأن صوته يُكمل أنين المسيح على الصليب. يغنّي، فتسمع الخشبة تئنّ، والمسمار يصرخ، والسماء تُصغي.

حين يقول: “فوق الصليب، في الجلجثة”، لا يُنشد لحنًا، بل يُعيد تمثيل اللحظة. ترى بوضوح صليبًا منصوبًا على تلة من الصمت، وجماهير من العيون تترقّب المصلوب. صوته هناك لا يواسي، بل يُحاكم، يُحرّك، يُوجِع. تشعر أن المسيح لا يزال معلقًا، وأن خطايانا ما زالت تُثقِل الخشب.

ثم تأتي المناجاة التي تُشعل فيك رماد القلب: ارحمني يا الله

في هذه الصرخة، لا يُصلّي شخص، بل تُصلّي البشريّة. كأن الصوت يعيدنا إلى أصلنا الأوّل، إلى اعترافنا الأوّل، إلى دمعتنا الأولى. لا كبرياء في الصوت، بل انكسار قدّيس، وانسحاق عاشق، وندم ابنٍ تائبٍ أدرك كم ابتعد.

وتأتي ترنيمة “يا يسوع الحياة”، ليس بصوت فيروز هذه المرّة، بل بصوتٍ يتماهى معها، يتناغم مع روحها، وينقلنا إلى جوف الصلاة. في هذه الترتيلة، لا يُنشد منير للمسيح فحسب، بل ينشده من عمق الحياة والموت، من شوق الإنسان إلى من يُحييه. تسمعها، فتشعر أنك لست وحدك، وأنّ هناك يسوعًا يمرّ في جراحك، يراك، يسمعك، ويرفعك إليه.

وتعلو “قامت مريم”، لا كإعلان دينيّ، بل كصحوة أمّ على رجاء جديد. لا يُنشدها منير فقط، بل يجعلنا نقوم معه. كأن العذراء تمشي بين المقاعد، تمسك أيادينا، وتعيدنا إلى إيمان كنّا قد نسيناه على رفّ التجربة.

ثم تدخل “واحبيبي”، الترنيمة التي لم تُكتب لتُغنّى، بل لتُبكى. في أدائه لها، لا تسمع ألم العذراء فقط، بل تسمع أمّك، وجعك، فُقدانك، بكاءك الذي لم تُجاهر به. كأن قلب مريم يخرج من بين شفتي منير، يهمس باسم المسيح، ويحتضن العالم. كل كلمة فيها تنهيدة، وكل لحنٍ قبرٌ مفتوح.

وتعلو “اليوم علّق على خشبة”… لا كأنشودة طقسية، بل كجرحٍ مفتوح يوقظ القلب من سباته. بصوت منير، تصير هذه الترتيلة محكمة روحيّة، يقف فيها الإنسان متّهَمًا أمام صليبٍ لا يكتفي بأن يُغفَر له، بل يُدعَى ليغفر هو الآخر. ترتيلة تقول لك: هذا الذي علّقوه على خشبة، لم يُعلَّق وحده… بل حملك، وعلّقك معه، لتقوم.

وفي خلفيّة هذا المشهد الحارق، يعزف بيار غانم على الكمان، لا كموسيقي، بل ككاهن للوجع. كل وترٍ هو جرحٌ مفتوح، كل نغمةٍ دعوة للبكاء، للسكوت، للصلاة دون كلمات.

إلى جانبه، أنطوان الأشقر على الكيبورد، لا يعزف مفاتيح، بل يفتح نوافذ الروح. موسيقاه لا تُرافق، بل تُضيء. توقظ فينا النبض القديم، حيث يسكن الرجاء.

وفي الختام، يرتفع النشيد الأعظم: “المسيح قام من بين الأموات”… ترتيلة لا تُقال بل تُعلَن، لا تُغنّى بل تُقام. بصوت منير، لا تعود القيامة ذكرى، بل تصبح خبرًا حيًّا، هزّة في الروح، رجفة في القلب. تسمعها، فتنهض. يمرّ المسيح فيك، لا كعابر، بل كساكنٍ لا يرحل.

ثم يختم بترنيمة “الهي يا ما أجملك، ما أعظم اسمك”… وهنا لا يعود الصوت صوتًا بشريًا، بل ترنيمة تسبيح خرجت من بين ضلوع الكون. تشعر أن الكلمات تتسامى، أن الحروف تتطهّر، أن اسم الله يُقال كما يُقال الحب: بدمعة، بخشوع، بانبهار. منير لا يُنشد الله، بل يُقدّمه، كما يُقدّم العابد قربانه، خالصًا، نقيًّا، من القلب إلى العلى.

منير خليفة… هو صوتٌ لا يتكلّم، بل يُقيم. يُقيم فيك، حولك، فوقك، كظلّ قدّيس لا يغيب. هو شاهد الجلجلة، حامل صليب الفن النقيّ، ذاك الذي لا يُقدَّم للجمهور بل لله.

في زمنٍ كثرت فيه العروض وقلّت الشهادات، يأتي منير ليقول لنا إن المسيح لا يزال يُصلب فينا… لكنّه لا يزال يقوم أيضًا في أصواتٍ صادقة، مثل صوته.

هو صوتٌ يُذكّرك أن هناك رجاء، حتى حين يخيّبك كل شيء

وأن في الفن، حين يصير إيمانًا، قيامةٌ لا تموت٠

في عالمٍ سئم الضجيج

يبقى منير خليفة نافذتنا نحو الصمت المضيء

والألم المقدّس

والقيامة القادمة لا محالة.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.

Leave a comment