Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

زينة أبي رعد… صوتٌ يوجع الروح ويُعيد تشكيل الكلمات – شربل الغاوي

زينة أبي رعد

زينة أبي رعد… صوتٌ يوجع الروح ويُعيد تشكيل الكلمات

هناك ترانيم لا تُنشد، بل تُولد من رحم القداسة، تتجسّد كصلاةٍ تهمس بها الأرواح قبل الشفاه، تفيض بنورها في العتمة، وتترك في القلب أثرًا لا يُمحى. من بين هذه الترانيم، تبرز “جيتك يا شربل” كلوحةٍ رسمتها المعجزة، وكأنها جزءٌ من روح القديس شربل نفسه، نبضٌ من إيمانه، همسٌ من صلواته، شعاعٌ من نوره الذي لا ينطفئ. هذه الترنيمة ليست كأي ترنيمة، بل حالةٌ فريدة، سفرٌ روحيّ يأخذك نحو عوالم من الخشوع والتأمل، وكل من يسمعها لا يكون كما كان قبلها.

زينة أبي رعد، بصوتها الذي لا يشبه أحدًا، لم تغنِّ الترنيمة فحسب، بل بعثت فيها حياةً أخرى. بصوتها تحوّلت الكلمات إلى صلاةٍ صامتة، والنغمات إلى حنينٍ يلامس حدود الأبدية. هي ليست مجرد مغنية، بل روحٌ تُعيد تشكيل الكلمات، تمنحها بُعدًا جديدًا، تجعلها أكثر التصاقًا بالحقيقة وأكثر قدرةً على ملامسة الأعماق.

حين يتحوّل الصوت إلى صلاة

في الموسيقى لحظاتٌ استثنائية، لحظاتٌ يذوب فيها الفاصل بين الصوت والروح، بين الغناء والتضرّع، بين الفنّ والإيمان. في “جيتك يا شربل”، لم يكن صوت زينة أبي رعد مجرد صوت، بل كان نافذةً للسماء، كان دمعةً ارتجفت في حضرة النور، كان رجاءً يوشك أن يتحقق.

جيتك يا شربل بعد طول غياب، إركع و صلّي ع السكت حدّك

منذ اللحظة الأولى، يُدرك المستمع أنه أمام تجربةٍ مختلفة. الصوت هنا ليس مجرد غناء، بل انحناءةٌ أمام القداسة، احتراقٌ بطيءٌ في نيران الإيمان، وجعٌ يهمس لكنه أعمق من الصراخ.

و أطلب بعتمة دنيتي عالباب، شوفك قبالي و إلمحو لخدك

وهنا، الصوت يقترب من البكاء، من رجاءٍ يتردّد بين الأمل والخوف، من صلاةٍ تخشى أن تتكسر قبل أن تصل. الموسيقى ليست مجرد خلفية، بل جزءٌ من التضرّع، من الرجاء، من الحنين الذي يملأ الفراغات بين الكلمات.

كتبني عصفحات الحياة كتاب، بايدك يا شربل متل ما بدك

في هذا المقطع، يبلغ الأداء ذروته، يصبح أشبه بانفجارٍ داخليّ من الإحساس، يلامس حدود الألم والرجاء معًا. ليس غناءً، بل اعترافٌ يُقال بصوتٍ يعرّي المشاعر، يجعل المستمع يتوقف، يتأمّل، يتنفّس ببطءٍ كأنه يخشى أن يُفسد قدسية اللحظة.

دمعي احترق عنار شمعك داب، صوتي صلاة وناطرة ردك

وهنا، الصوت لم يعد صوتًا، بل شهقة روح، لم يعد غناءً، بل وجعٌ يطفو بين النغمات، خشوعٌ يُحاصر الدموع، همسٌ تتراقص فيه الآهات على حافة الصمت.

خاطي انا والقلب جرحو طاب، بنعمة حنانك وبطهر ردك

وهنا، يتحوّل الصوت إلى طمأنينةٍ بعد رحلة ألم، كيدٍ تربّت على قلبٍ أرهقته الذنوب، كغفرانٍ يهبط ببطءٍ كالمطر، لا يُطفئ الجرح تمامًا، لكنه يجعله أقلّ وجعًا.

قديس انت وربنا ما جاب، متلك بكل الكون مين قدك

وهنا، يبلغ الصوت قمة السكون المطمئن، كأن كل الأسئلة وجدت أجوبتها، كأن كل الدموع تحوّلت إلى نور. ليس غناءً، بل يقينٌ بعد مكابدة، استسلامٌ جميلٌ بعد صراعٍ طويل، طمأنينةٌ تفيض على كل من يسمعها.

حين يصبح الصوت نافذةً للأبدية

هذه الترنيمة، التي كتب كلماتها الأب لويس مطر بعد أن شفاه القديس شربل، ولحّنها ووزّعها الفنان شربل الناشف، ليست مجرد مقطوعةٍ موسيقية، بل شهادةُ إيمان، همسُ قلبٍ يروي معجزةً بصوتٍ يشبه الدعاء.

زينة أبي رعد ليست صوتًا عاديًا، بل تجربةٌ نادرة، حالةٌ شعورية تتجاوز حدود الغناء التقليدي. في أدائها، هناك شيءٌ لا يُشترى ولا يُباع، لا يُدرّس في معاهد الموسيقى، بل يُولد مع القلّة، مع الذين لا يغنّون ليُسمَعوا، بل ليحكوا حكاية، ليُشعلوا شمعة، ليضعوا أيديهم على قلوبٍ لم تعد تحتمل وجعها وحدها.

في صوتها، يسكن سحرُ الشرق بكل ما فيه من عمق، فيه الحنين الذي ينساب في المواويل القديمة، فيه الرجاء الذي يختبئ بين مقامات العشق والتضرّع، فيه الصدق الذي يجعل لكل جملةٍ وزنًا آخر، يجعل الغناء أقرب إلى الحقيقة منه إلى الأداء.

صوتها يشبه الأيقونات حين تبكي زيتًا، يشبه يد الأم حين تُغلق جفن طفلها النائم، يشبه صلاةً قديمة لم يُكمِلها أحد، يشبه النافذة التي تُفتح فجأةً على ضوءٍ لم يكن متوقعًا.

ليس في الكون صوتٌ يشبهه… لأنه صوتٌ لا يمرّ، بل يبقى. لا يُسمع، بل يُحَسّ. لا يُؤدَّى، بل يُعاش. لا يغنّي فقط… بل يُعيد تشكيل الكلمات حتى تُصبح أجمل.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.

Leave a comment