Charbel El Ghawi Sawt El Fan

.

شربل الغاوي صوت الفن

مريانا حاطوم : بوح الحروف وصدى المشاعر – شربل الغاوي

مريانا حاطوم

مريانا حاطوم : بوح الحروف وصدى المشاعر

بين دفّتي كتاب، تولد الحكايا وتتشابك الكلمات مع المشاعر، فتصبح الحروف جسورًا بين العابرين في دروب الحياة. هناك، في زوايا الصفحات، تنبض روحٌ لا تكتب لمجرد الكتابة، بل تسكب ذاتها مدادًا، تنثر وجعها وأملها، وتخلط الحبر بالدمع والحنين. إنها مريانا حاطوم، كاتبةٌ لا تتوقف عند تخوم اللغة، بل تغوص في أعماق الوجدان، فتكتب بنبض القلب لا بقواعد الحروف، وتحمل القارئ على أجنحة السرد إلى حيث يتلاقى الفكر بالإحساس، والتجربة بالبوح، والصمت بالكلمات التي تنطق بما تعجز الأرواح عن قوله.

ليس ما تكتبه مريانا مجرّد سردٍ للأحداث أو رصفٍ للكلمات، بل هو مرآةٌ تعكس الحقيقة في أبهى صورها، تنفض الغبار عن تفاصيل الحياة التي يمر بها الجميع لكن قلةٌ فقط من يملكون القدرة على التقاطها وتقديمها بلغةٍ تمسّ القلب قبل العقل. تتكئ على الحرف كما يتكئ العابر على ظلّه، تحفر عميقًا في الذاكرة الإنسانية، فتُخرج ما كان مكنونًا في زوايا الروح، تغوص في تجاعيد الزمن، تستنطق الوجوه الصامتة، وترسم بحروفها تضاريس المشاعر التي خبأها الناس بين طيات الأيام. في نصوصها، تجد الأحزان مأوى لها، والآمال متنفسًا، والحنين ضوءًا خافتًا يتسلل بين السطور، يضيء زوايا القلب المنسية.

هي كاتبةٌ لا تكتب لتملأ الفراغ، بل لتخلق عالمًا ينبض بالحياة، عالمًا تتداخل فيه المشاعر كما تتشابك الأقدار، حيث الكلمة ليست مجرد وسيلةٍ للحكي، بل صرخةٌ حينًا وهمسةٌ حينًا آخر، تارةً تشتعل كالشرارة وتارةً تنساب كالماء الرقراق. تكتب وكأنها تنحت نقشًا خالدًا على جدار الزمن، لا تمحوها الأيام، بل تزداد عمقًا مع كل قارئ يجد في سطورها جزءًا من روحه. تجعل القارئ يتوقف، يعيد قراءة الجملة مرتين وثلاثًا، يتأمل، يتساءل، وربما يعثر في طيات الكلمات على إجاباتٍ لم يكن يعلم أنه يبحث عنها.

على سطورٍ من نور، تُنثر الحكايا بحبرٍ من روحٍ لا تعرف الزيف، تُنقش المشاعر بحروفٍ لا تهرُب من الحقيقة، بل تواجهها، ترويها، وتتركها عاريةً أمام القارئ ليراها كما هي، بلا أقنعة. تكتب مريانا، فلا يكون النص مجرد سردٍ، بل سيمفونيةٌ من الأحاسيس، تُعزف على أوتار القلب، فيرتجف الوجدان تحت وقع الكلمات، ويولد بين السطور عالمٌ آخر، لا يشبه إلا صدق المشاعر ووهج التجربة.

شغف الروايات البوليسية ونداء المشاعر

بذكاءٍ تحليلي وعينٍ تلتقط أدق التفاصيل، تجد مريانا حاطوم في الروايات البوليسية شغفها الأول، حيث تتشابك الخيوط وتتقاطع الأحداث في حبكةٍ تحمل في طياتها خفايا النفس البشرية. لكنها لا تكتفي بسبر أغوار الغموض، بل تتوغل في مساحات المشاعر، تفتح نوافذ للبوح، وترسم بالكلمات لوحاتٍ تعكس ضجيج الحياة وصمتها، لتمنح الحروف بعدًا أعمق من مجرد السرد، فتجعلها مرآةً للواقع وظلالًا للأحاسيس المكنونة.

وها هي تستعد لإطلاق عملٍ جديد، عملٌ يتجاوز حدود الكتاب التقليدي، تجربة تنبض بالحياة، تحمل بين سطورها صوتًا خافتًا لكنه نافذٌ إلى القلوب، كأنه صدى الأرواح التي تبحث عن بوحٍ يليق بها. تستلهم تفاصيله من همسات العابرين، تلتقط من الحكايات المتناثرة قصصًا لم تُكتب بعد، وتحوّل اللحظات اليومية إلى لوحاتٍ أدبيةٍ تنبض بصدق المشاعر، تشبه الواقع لكنها تتجاوزه عمقًا ودلالة. إنه بوحٌ يخرج من صمت الأيام، ينبض بالحقيقة كما تراها العين، وكما يترجمها القلب.

حين تفقد البيوت أرواحها

تكتب مريانا حاطوم عن البيوت التي لم تعد كما كانت، عن تلك المساحات التي كانت يومًا تضجّ بالضحكات، ثم خفتت أصواتها حتى كادت أن تختفي. البيوت التي، رغم جدرانها الصامدة، أصبحت خاوية من الحياة، كأن الزمن مرّ عليها وسرق دفئها، تاركًا خلفه صمتًا يروي حكايات الفقدان بصوت لا يُسمع، لكنه يُحسّ في أعماق القلب.

وفي قلب هذا المشهد، تبرز صورة الشقيقة التي لم تعد تجد الأخ بجانبها، ذلك الملاذ الذي كان يومًا وطنًا، فأصبح فجأة مسافةً شاسعة، لا تُقاس بالأمتار، بل بالخذلان، بالبرود الذي تسلل إلى الأرواح، وربما بصمتٍ لم يختره أحد. هل هو القدر الذي فرّق القلوب؟ أم أن الأيام صنعت بين النفوس سدودًا يصعب هدمها؟ أسئلة تهمس بها الذكريات في ليالي الوحدة، ولا يجيب عنها سوى الحنين المتأخر، حين لا يبقى في البيت إلا صداه القديم.

المرأة بين القيود والحرية

لطالما كانت المرأة جوهر كتابات مريانا حاطوم، لا تتحدث عنها من باب الوصف العابر، بل تكتب بروح من عاشت التجربة، من خاضت معاركها في صمتٍ، ووقفت في وجه الرياح حين أراد الجميع أن تُطأطئ رأسها. تصف القيود التي تطوقها، تلك السلاسل التي لا تُرى لكنها تُحس، تثقل الروح وتحاول كتم أنفاس الأحلام. تتحدث عن الأبواب التي تُغلق في وجهها لمجرد أنها قررت أن تكون ذاتها، لمجرد أنها اختارت أن تكتب فصول حياتها بيدها، لا بيد الآخرين.

لكنها لا تكتفي بوصف الألم، بل تهمس لها بين السطور: كوني أنتِ، لا تسمحي لأحدٍ بأن يرسم حدودكِ، فالحياة لا تُمنح إلا لمن يملك الجرأة على المطالبة بها، والشمس لا تشرق إلا لمن يصرّ على الوقوف في ضيائها.

حين يصبح العطاء استنزافًا

في خضم العلاقات، تتوقف مريانا عند لحظة الانكسار الصامت، حين يشعر الإنسان أن قلبه بات نهرًا يفيض بلا ضفاف، وأن العطاء، الذي كان يومًا بهجةً، صار استنزافًا لا يرحم. تكتب عن أولئك الذين يمنحون بلا حساب، حتى يرهقهم العطاء، وحتى تتحول أرواحهم إلى ظلال باهتة من ذاتهم.

تقول: “حين يُهدي الإنسان قلبه دون أن يجد صدى، يصيبه الإنهاك. حين يظل يروي أرضًا لا تُنبت، يشعر بالجفاف في داخله.” فالعطاء لغة النبلاء، لكنه يصبح عبئًا حين يُستهلك دون أن يجد من يحتضنه. فهل يمكن أن نحيا دون أن نعطي؟ أم أن الحياة تقتضي أن نمنح بوعي، أن نحب دون أن ننسى أنفسنا، أن نمنح دون أن نصبح أسرى لما نقدمه؟

هكذا، بين القيود والحرية، بين العطاء والاستنزاف، تكتب مريانا عن الحياة كما هي، لا كما يُراد لنا أن نراها. ترسم بالكلمات ملامح الواقع، وتدعونا إلى أن نكون أبطال قصصنا، لا مجرد شخصيات هامشية في حكايات الآخرين.

الرومانسية بين الحلم والواقع

في كتاباتها، تمنح مريانا حاطوم للحب بُعده النقي، ذاك الذي لا تشوبه المصالح، ولا تلوثه حسابات الربح والخسارة. تجعله تجربة تستحق أن تُعاش بكل ما فيها من شغفٍ ولهفة، لكنها لا تغرق القارئ في أوهام الخيال، بل تضعه أمام مرآة الحقيقة، حيث لا يكفي الحب وحده ليجعل الحياة وردية، ولا تُختصر المسافات بين القلوب بالمشاعر وحدها.

تقول: الحياة لا تتوقف عند عثرة، والحب، مهما كان عظيمًا، يظل ناقصًا إن لم تسانده الأفعال، فالمشاعر وحدها لا تبني الجسور، ولا تكسر الحواجز التي يفرضها الواقع.

هكذا، تكتب مريانا عن الحب كما هو، لا كما نتمناه، عن ذاك التوازن الدقيق بين الحلم والواقع، حيث يبقى الحب جميلًا، لكنه ليس كل شيء.

الكتابة… صرخة الروح

لماذا يكتب الكاتب؟ سؤالٌ يشبه طرقات المطر على نوافذ القلب، لا يُدرك جوهره إلا من احترقت روحه بنار الكلمات. البعض يكتب لأن في داخله بركانًا لا يهدأ، وآخر يكتب لأن الصمت أثقل من أن يُحمل. هناك من يجد في الحروف وطناً لا يخونه، وملجأً لا يخذله. الكتابة ليست مجرد سطورٍ تُسطَّر، بل هي صرخةٌ حين تضيق المساحات، وملاذٌ لمن ضاقت به الأرض بما رحبت.

العوائق… امتحان الحياة وقسوة المجتمع

في طريقها، تمشي الفتاةُ بخطواتٍ يملؤها الشغف، لكنها تصطدم بجدرانٍ لم تبنها يداها، بل بناها مجتمعٌ اعتاد أن يرسم لها حدودًا لا تعترف بها. لماذا كلما أرادت أن تفتح بابًا نحو حلمها، وجدت ألف قيدٍ يحاول أن يُطفئ نورها؟ ومع ذلك، لا تستسلم، بل تمضي، وتكتب عن الإرادة التي تجعلها تتخطى الجدران، عن القوة التي تُعيد تشكيلها بعد كل انكسار، وعن يقينٍ يسكنها بأن لا شيء يستطيع كبح الروح حين تقرر أن تحلّق.

وجه النرجسي… وانعكاس الذات

في عيني النرجسي، لا ترى دفئًا، بل انعكاسًا لنفسه فقط. وجهه لا يحفز ولا يشجع، بل يسلب ويستهلك. علاقاته ليست حبًا، بل سيطرة، والآخر فيها مجرد وسيلةٍ لتغذية أنانيته المتضخمة. تكتب عن المرآة التي لا تخدع، عن تلك اللحظة التي ينظر فيها الإنسان إلى صورته، فلا يرى نفسه كما هو، بل كما صنعته الأيام. “رأيتُ وجهي، لكن ليس بعُمري، وكأن السنوات اجتمعت في لحظة واحدة.” من منا لم يُحس يومًا أن الزمن مرَّ عليه بأكثر مما يجب؟

الثقة… الحصن الذي لا يُهدم

وسط كل هذه الفوضى، هناك يقينٌ واحدٌ لا يتغير: لا تثق إلا بنفسك، ولا تنتظر من أحدٍ أن يُنقذك. الثقة بالنفس ليست رفاهية، بل سلاحٌ في معركة الحياة، وحصنٌ يحمي الروح من السقوط. العالم لا يُلقي بشبكة أمان، لذا لا بد أن يكون الإنسان شبكته الخاصة، وأن يتعلّم كيف يسير وحده حين يخذله الجميع.

الكمال… سرابٌ أم حقيقة؟

هل سنجد يومًا ذاك القلب الذي يختصر كل أحلامنا؟ ذاك الوجه الذي تكتمل فيه ملامح الحلم، والصوت الذي يهدأ فيه ضجيج الروح؟

سؤالٌ ينساب في القلب كأنين الريح في ليلةٍ باردة، يطرق النوافذ ثم يمضي، تاركًا خلفه رعشة الحنين. ربما الكمال ليس ظلًّا لشخصٍ بعينه، بل ومضةٌ خاطفة تتسلّل إلى أيامنا حين لا نتوقعها، لحظةٌ نسرقها من العمر، ثم نفقدها قبل أن نعي أنها كانت هنا.

هو ليس وعدًا يُكتب، ولا أبديةً تُمنح، بل لمحةٌ عابرة تلامس أرواحنا كطيفٍ يمرّ، يدفئ قلوبنا للحظاتٍ، ثم يختفي. ومع ذلك، أليس يكفي أن نشعر، ولو مرةً واحدة، أننا وجدنا ما بحثنا عنه عمرًا، حتى وإن لم يكن لنا؟

أنين الحروف… حين تنبض الكلمات بالحياة

في عالم الكلمات، حيث يتجلّى البوح كريحٍ تسري في صمت الليالي، تنسج مريانا حاطوم خيوطًا من نورٍ وحزن، من أملٍ ووجع، من شوقٍ لا يهدأ وحنينٍ لا ينطفئ. لا تقتصر كتاباتها على حروفٍ متراصّة، بل تنبض بمشاعرٍ تتردد في القلوب المرهقة، وتحمل رسائل تتسلّل إلى الأرواح التي أنهكها الانتظار.

في كل سطرٍ تخطّه، تمتدّ يدها نحو الذين أرهقتهم الحياة، نحو الذين فقدوا دروبهم في متاهات الأيام، نحو من حملوا أوجاعهم كأمتعةٍ ثقيلة ولم يجدوا أين يلقون بها. كلماتها لا تقتصر على كونها صدى لحياتها، بل تعكس ملامح الذين ضاعوا في زحام الأيام، الذين تأرجحوا بين الرجاء والانكسار، الذين وقفوا على عتبة الليل يتساءلون: إلى أين؟

هي ليست كاتبةً وحسب، بل جسرٌ يصل بين الأرواح، ونبضٌ يحيي القلوب التي كادت أن تموت بصمت. هي صوتُ الذين ابتلعوا غصّاتهم ولم يجدوا من يسمعهم، وهي اليد التي تمتدّ برفقٍ إلى القلوب المتعبة، والنبض الذي يهمس لمن أنهكهم الحزن: لستَ وحدك، أنا هنا، كلماتي لك، قلبي معك، وحروفي ملاذك.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.

Leave a comment